خُلق المراقبة .. أُنسٌ للفرد ونَجاحٌ للمؤسسة

الرئيسية » بصائر تربوية » خُلق المراقبة .. أُنسٌ للفرد ونَجاحٌ للمؤسسة
alt

لغياب الرَّقابة الذاتية في عالمنا اليوم ومجتمعاتنا ومؤسساتنا المختلفة، استحدث المسؤولون عنها صفة "مراقب" لبعض الأشخاص، وتعدّدت مهامهم واختصاصاتهم؛  فمنهم مراقب الدوام ومراقب سير العمل ومراقب الامتحانات والاختبارات .. وقد يستغنى عن العنصر البشري لتحلّ محلّه كاميرات المراقبة وأجهزة مراقبة الدوام بالبصمة الإلكترونية وغيرها.. لقد جرّبت  الرّقابات الأرضية لفرض سلوك معيّن، فلم تنجح ولم تعط النتائج المرجوّة منها، على الرّغم من بذل  الجهد والمال، ولكن دون جدوى !

إنَّ السرّ في عدم نجاح تلك الجهود البشرية يكمن في غياب الوازع الداخلي النابع من الرقابة الذاتية لله سبحانه وتعالى، وإيمان الفرد بأنَّ الله مطلع عليه في سائر حركاته وسكناته، فما يلفظ  من قول وما يحرّك من ساكن وما يقوم به من عمل إلاَّ لديه رقيب عتيد ... فما هي هذه المراقبة ؟

"
إنَّ السرّ في عدم نجاح تلك الجهود البشرية يكمن في غياب الوازع الداخلي النابع من الرقابة الذاتية لله سبحانه وتعالى، وإيمان الفرد بأنَّ الله مطلع عليه في سائر حركاته وسكناته
"

عرّف بعض العلماء المراقبة لله سبحانه وتعالى بقولهم: (هي مراعاة القلب لملاحظة الحق مع كل خطرة وخطوة). وقال آخرون:  (مقام المراقبة وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه منه فإذا استحضر العبد هذا في عمله وعمل عليه فهو مخلص لله تعالى؛ لأنَّ استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله تعالى وإرادته بالعمل). وقيل: (من راقب الله في خواطره عصمه في حركات جوارحه).

من هنا نبدأ ..

تنمية خلق المراقبة لله سبحانه يبدأ من الإيمان العميق بأنَّ الله سبحانه محيط بكل شيء، قال الله عزّ وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. (المجادلة:7).

يقول الإمام ابن كثير في تفسيره: (يقول تعالى مخبرًا عن إحاطة علمه بخلقه واطلاعه عليهم وسماعه كلامهم ورؤيته مكانهم حيث ما كانوا وأين ما كانوا، فيطلع عليهم، ويسمع كلامهم وسرهم ونجواهم، ورسله أيضًا مع ذلك تكتب ما يتناجون به مع علم الله تعالى به، وسمعه لهم).

"
يقول سفيان الثوري رحمه الله: (عليك بالمراقبة مما لا تخفى عليه خافية، وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء).
"

وقد قرَّر المولى تبارك وتعالى هذا المعنى في كتابه كثيرًا، ولفت أنظار المتفكرين في كتابه إليه، حيث قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}. (التوبة:78)، وقال سبحانه : {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}. (الزخرف:80)، وقال عزّ وجل: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. (المجادلة:6)، قال الإمام ابن كثير في تفسيره : (شهيد على أفعالهم، حفيظ لأقوالهم، عليم بسرائرهم وما تكن ضمائرهم). وقال السعدي  في تفسيره: (الشهيد المطلع على جميع الأشياء، سمع جميع الأصوات خفيها وجليها، وأبصر جميع الموجودات دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، وأحاط علمه بكل شيء، الذي شهد لعباده وعلى عباده بما عملوه).

وفي قراءتنا لسورة الفاتحة في صلاتنا يومياً نتدبَّر قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}.(الفاتحة:4)؛ أي: لا يشاركه في ذلك أحدٌ ممَّن خلق، ولمفردة (الدين) معان كثيرة؛ منها المكافأة والعقوبة، وفي هذا تربية أُخرى للعبد، فإنه إذا آمن بأن هناك يوماً يظهر فيه إحسان المحسن، واساءة المسيء، وأن زمام الحكم في ذلك اليوم العظيم بيد الله تكوّن عنده خُلُق المراقبة، وتوقَّع المحاسبة، فكان ذلك أعظمَ سبيل لإصلاح كل ما يعمل.
وفي مسند الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمر قال : أخذ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ببعض جسدي فقال : (( اعبد الله كأنك تراه)).  يقول سفيان الثوري رحمه الله: (عليك بالمراقبة مما لا تخفى عليه خافية، وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء).

يقول ابن عطاء السكندري في مناجاته : (عَميتْ عينٌ لا تراكَ عليها رقيباً، وخسرتْ صفقة عبدٍ لم يجعل له من حظك نصيباً). وسئل ابن عطاء الله: ما أفضل الطاعات؟ فقال مراقبة الحق على دوام الأوقات.
قال ابن المبارك لرجل: راقب الله تعالى، فسأله عن تفسيرها فقال: كن أبدا كأنك ترى الله عز وجل.
وسئل الحارث المحاسِبي عن المراقبة فقال: (علم القلب بقرب الله تعالى).

مع أسماء الله الحسنى ..

"
يقول ابن عطاء السكندري في مناجاته : (عَميتْ عينٌ لا تراكَ عليها رقيباً، وخسرتْ صفقة عبدٍ لم يجعل له من حظك نصيباً).
"

إنَّ قراءة متدبرة متمعنة في أسماء الله الحسنى (الرَّقيب، الحفيظ، الشَّهيد، المُحيط، العليم) كفيلة بتحقيق خلق المراقبة لله سبحانه في النفس، فالرقيب الذي يرصد أعمال عباده، والحفيظ الذي يحفظ عباده المؤمنين، ويحصي أعمال العباد، والعليم الذي لا تخفى عليه خافيةٌ من أمور عباده، والسَّميع المدرك للأصوات، والبصير الذي يرى كل شيء.

قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} .. يقول الإمام ابن جزي في تفسيره (التسهيل): (إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها استفاد مقام المراقبة وهو مقام شريف أصله علم وحال ثم يثمر حالين؛ أمَّا العلم فهو معرفة العبد، لأنَّ الله مطلع عليه ناظر إليه يرى جميع أعماله ويسمع جميع أقواله ويعلم كل ما يخطر على باله وأما الحال فهي ملازمة هذا العلم للقلب بحيث يغلب عليه ولا يغفل عنه ولا يكفي العلم دون هذه الحال فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتها عند أصحاب اليمين الحياء من الله وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجد في الطاعات وكانت ثمرتها عند المقربين الشهادة التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال وإلى هاتين الثمرتين أشار رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك").

ما أحوجنا نحن المسلمين إلى هذا الخلق الكريم، إلى مقام المراقبة لله سبحانه في بيوتنا ومؤسساتنا المختلفة، حيث ينطلق المسلم في بيته وسوقه ومؤسسته، وفي حلّه وسفره، في نهاره وليله وهو يستشعر مراقبة الله سبحانه وتعالى ليستقيم كما أمر، ويؤدّي واجبه المنوط به وهو يستحظر معيّة الله سبحانه، ليرتقي في هذا المقام الفريد وليحقق النجاح المنشود لمؤسسته.

معلومات الموضوع

الوسوم

  • الإخلاص
  • اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

    شاهد أيضاً

    “بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

    كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …