سيد قطب و «الولد العاق» – بقلم: فدوى حلمي

الرئيسية » حصاد الفكر » سيد قطب و «الولد العاق» – بقلم: فدوى حلمي
alt

عندما تقع بين يديك قطعة أدبية لسيد قطب باللغة الإنجليزية، فإنها تستوقفك بكل ما فيك لتختبر انفعالاتك مع قلم قطب الإنجليزي، مع شكل جديد لجعبة الأديب العربي في النسق الإنجليزي، سيد الأديب الناقد الذي وصل أمريكا في نوفمبر من عام 1948 وعمره آنذاك 42 عاماً في بعثة تعليمية للخارج، ليس للحصول على درجة علمية، بل للتعرّف على آليات المناهج التعليمية في الولايات المتحدة الأمريكية لمراحل التعليم المدرسي، كان قد سبقه للغرب طه حسين ولويس عوض وغيرهما الكثير، لكن قطب لم يحمل معه في حقيبته الفكرية أي تصوّرات مُسبقة منغمسة بالنظرة التفوقية للغرب في رحلته العابرة للقارات، المُجتازة آفاق الثقافة وتنوع الحضارات.

في صيف عام 1949 اختار قطب كلية كولورادو للتربية لقضاء فترة دراسية فيها يختار هو فيها مساقاته التعليمية، وفي 1/11/1949 نشرت مجلة الكلية fulcrum (نقطة ارتكاز) مقالاً لسيد قطب باللغة الإنجليزية في الصفحة التاسعة والعشرين من المجلة تحت قائمة مقالات، كان عنوان المقالة The world undutiful boy (العالم ولد عاق)، وأهمية هذا العمل تكمن باعتباره العمل الكتابي الوحيد المنشور لسيد قطب باللغة الإنجليزية.
"
المرجعية الحضارية لدى سيد هي قيمية أخلاقية لا أصولية تبعية، وهذا النقد يخاطب دعوات التقدّم والرقي في العالم الأول، ويطرح الفكرة في نطاق المساءلة المشروعة لا المحاسبة اللاذعة، وهكذا يتميز سيد قطب باتزانه النقدي
"
في الجزء الأول من المقالة يبدأ قطب مقالته بما صرّح أنّه أسطورة مصرية قديمة، تتحدث عن قصة إله الحكمة والمعرفة الذي خلق التاريخ، وطلب إليه أن يمضي في الأرض فيسجل في كتابه العظيم وقلمه الكبير كل ما يرى وما يسمع، وإذا استشكل عليه أمر يعود لإله الحكمة والمعرفة لسؤاله حتى يبين له الجواب، وتمضي الأسطورة حتى يلتقي التاريخ بفتاة شابة جميلة جدا حكيمة، تُدرّس ولداً بأسلوب لطيف راقٍ، فيَدْهش التاريخ بها ويسأل عنها فيجيب إله الحكمة والمعرفة بأنها مصر، وهذا الولد الصغير هو العالم الذي تعلمه مصر، وتنتهي الأسطور عندما يوجه إله الحكمة والمعرفة التاريخ ليجلس في حضرة مصر ليتعلم منها كل شيء، فنهر النيل المقدّس وهبها معرفة كل شيء، بل إن إله الحكمة والمعرفة سيجلس مع التاريخ ليستمع للدرس من مصر.

يتضح في هذا الجزء أن مصر لم تكن تشكل لدى قطب وطنه بالمعنى الجغرافي، أو باعتبار مسقط الرأس، بل مصر هي منشأ العالم وينبوع الحضارات، وباعتبار مصر هي الحاضنة للعالم يكون قطب قد نفى مفهوم التضاد بين الشرق والغرب، بل هو في الجزء الثاني من المقالة سيستنكر انقلاب هذا العالم الغربي على أمه الشرقية مصر، ليس من الغريب أن يظهر اعتزاز قطب بمصر حتى وهو في قلب مدنية العالم الأول؛ فالعقلية المشرقية الراسخة في ذهن قطب كانت عدسة الرؤيا ومسار التوجيه، فالاحتكاك بالغرب لا يعني الانفكاك عن الشرق، بل
إن المشروع النهضوي عند سيد قطب يرتكز على أصالة الثقافة المشرقية المتمثلة بمصر التي وظّفتها الأسطورة كمعلمة للتاريخ، في صورة مُستساغة للذوق العام، وكان من حنكة الرجل الأدبية أنه استلهم الأسلوب القصصي في أولى محاولاته الكتابية باللغة الإنجليزية، فالقصص الأسطورية تملأ الفجوات الزمانية والأبعاد المكانية بين الشعوب، وتلبي حاجة ثقافية ملّحة للقارئ.

وفي الجزء الثاني من المقالة يطرح الأستاذ الأديب قطب فكرة أصول حضارة العالم المتجذرة في عمق تاريخ مصر قبل أي حضارة أخرى، فهي التي علمت الإغريق، والإغريق علّم أوروبا -على حد تعبيره- ثم يتساءل قطب عن كيف رد العالم هذا الجميل لمصر بالعقوق والضرب بل حتى القتل، عندما وقف العالم ضد العدالة ومع الاحتلال الإنجليزي والاحتلال الإسرائيلي.
"
إنّ البريق الأمريكي لم يكن ليفصل قطب عن وجدان الأمة، ولم يكن منبهراً ولا معادياً، فعنوان مقالته «العالم ولد عاق»، يعترف بأمومة مصر المشرقية للعالم، فكيف يمكن أن تكره عالَماً تنسب أمك له.
"

في هذا الجزء يكشف سيد قطب عن ميله للاعتقاد بتنوع وتمايز الحضارات مع أصالة روافدها المشرقية، وأن الحضارة الإغريقية والأوروبية ما هي إلا نتاج تفاعل حضاري حقيقي بين الأمم، أشرفت عليه مصر بالتعليم والتهذيب، هذا التصوّر لدى سيد يهدم ادعاءات البعض بأحادية التفكير لديه بالنظر إليه كدوغماتي بتوصيف العلاقات مع الآخر بالصراع، فسيد لا يرفض الآخر لأنه غربي، بل يرفض تنكّر الآخر المشترك الإنساني الحضاري العام المتمثل في مصر المعلمة للحضارات، قاس ذلك باعتماد الانحدار القيمي الذي مارسه الغرب، متمثلا بأمريكا في تعاطيه مع مقرر العدالة، فمساعدة العالم الاحتلال الإنجليزي والاحتلال الإسرائيلي لا يوجد له تفسير سوى طرح العدالة جانباً.

فإذاً المرجعية الحضارية لدى سيد هي قيمية أخلاقية لا أصولية تبعية، وهذا النقد يخاطب دعوات التقدّم والرقي في العالم الأول، ويطرح الفكرة في نطاق المساءلة المشروعة لا المحاسبة اللاذعة، وهكذا يتميز سيد قطب باتزانه النقدي.

إنّ البريق الأمريكي لم يكن ليفصل قطب عن وجدان الأمة، ولم يكن منبهراً ولا معادياً، فعنوان مقالته «العالم ولد عاق»، يعترف بأمومة مصر المشرقية للعالم، فكيف يمكن أن تكره عالَماً تنسب أمك له.

المصدر: صحيفة السبيل الأردنية

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

قراءة سياسية في عبادة الصيام

عندما نضع الصيام في سياق العبادة في الإسلام نجد أن العبادة وسيلة تحقق غايات عليا …