كم يشعر أحدنا بالسعادة والطمأنينة حين ينفذ أمراً من أوامر الله سبحانه، أو يقتفي أثراً من سنن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو يُحيي عبادة مهجورة، ويزداد إيمانه حينما يكون مشمولاً في الطائفة المؤمنة التي امتدحها المولى سبحانه في كتابه بقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين}. وقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، ويطمئن للثواب والأجر الذي وعده الله سبحانه به في قوله:{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، وللمغفرة في قوله تعالى:{وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}.
إنَّ خلق العفو من مكارم الأخلاق التي حضَّ عليها القرآن الكريم، قال ابن قيِّم: وقد جمع الله له مكارم الأخلاق في قوله تعالى :{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}. ومن المعاني التي رجّحها الإمام ابن جرير في تفسير قوله تعالى :{خُذِ الْعَفْوَ} أنَّ العفو هو أخلاق الناس، قاله ابن الزبير، والحسن، ومجاهد فيكون المعنى: اقبل الميسور من أخلاق الناس، ولا تستقص عليهم فتظهر منهم البغضاء؛ حيث قال في تفسيره: (وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معناه: خذ العفو من أخلاق الناس، واترك الغلظة عليهم. وقال: أُمر بذلك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في المشركين). ويقول أيضاً: (وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأنَّ الله جلَّ ثناؤه أتبع ذلك تعليمَه نبيَّه صلى الله عليه وسلم محاجَّته المشركين في الكلام، وذلك قوله:{قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ}. وعقَّبه بقوله: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ * وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا }. فما بين ذلك، بأن يكون من تأديبه نبيَّه صلَّى الله عليه وسلّم في عشرتهم به، أشبهُ وأولى من الاعتراض بأمره بأخذ الصدقة من المسلمين).
ذلك أنَّ من أخلاق الرُّسل الكرام ومن صفات الدعاة والعلماء أن يكونوا أصحاب عفو وسماحة ولين جانب وعطف تجاه الأتباع والأحباب والنّاس جميعاً، ولو كانوا غير ذلك لنفر النّاس منهم وتركوا دعوتهم والإيمان بهم والالتفاف حولهم، وهو المعنى الذي لخّصه القرآن الكريم من أخلاق الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله:{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.
إنما بعثتُ رحمة ..
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كأنِّي أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء صلوات الله وتسليماته عليهم ضربه قومه، فأَدْمَوْه وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: ((رب اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون)). متفق عليه.
وقد قيل للنبي عليه الصَّلاة والسَّلام: ( ادْعُ على المشركين، فقال: ((إني لم أُبْعَثْ لَعَّانًا، وإنما بعثتُ رحمة)). رواه مسلم.
"
من أخلاق الرُّسل الكرام ومن صفات الدعاة والعلماء أن يكونوا أصحاب عفو وسماحة ولين جانب وعطف تجاه الأتباع والأحباب والنّاس جميعاً، ولو كانوا غير ذلك لنفر النّاس منهم وتركوا دعوتهم والإيمان بهم
"
ما لم تنتهك حرمة !
أخرج البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا)).
مع يهودية !
وضعت امرأة يهودية السم في شاة مشوية، وجاءت بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقدمتها له هو وأصحابه على سبيل الهدية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد الهدية، لكن الله -سبحانه- عصم نبيه وحماه، فأخبره بالحقيقة.
فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإحضار هذه اليهودية، وسألها: ((لم فعلتِ ذلك؟)). فقالت: أردتُ قتلك. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كان الله ليسلطكِ علي).
وأراد الصحابة أن يقتلوها، وقالوا: أفلا نقتلها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (لا)، وعفا عنها.
ومع قاتل !
كان النبي صلى الله عليه وسلم نائمًا في ظل شجرة، فإذا برجل من الكفار يهجم عليه، وهو ماسك بسيفه ويوقظه، ويقول: يا محمد، من يمنعك مني. فيقول الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم بكل ثبات وهدوء: (الله). فاضطرب الرجل وارتجف، وسقط السيف من يده، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم السيف، وقال للرجل: (ومن يمنعك مني؟). فقال الرجل: كن خير آخذ. فعفا النبي صلَّى الله عليه وسلّم عنه.
اذهبوا فأنتم الطلقاء..
"
فإنَّ الجزاء من جنس العمل، فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك جزاء وفاقا
"
في السنة الثامنة من الهجرة دخل النبيُّ صلَّى الله عليه وسّلم مكة المكرمة فاتحًا منتصراً، وأمام الكعبة المشرفة وقف صناديد قريش وقد امتلأت قلوبهم رعبًا، وهم في حيرة فيما سيفعله بهم الرسول الكريم بعد أن تمكن منهم، ونصره الله عليهم، وهم الذين آذوه، وحاصروه وتآمروا عليه بالقتل، وعذبوا أصحابه أشد العذاب، وسلبوا أموالهم، وديارهم، وأجلوهم عن بلادهم ، لكنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام قابل كل تلك الإساءات بالعفو والصفح والحلم، قائلاً: ((يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟)). قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال قولته الشهيرة: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
هل لك نصيبٌ منه ؟
وبعد، فهل يكون لك نصيبٌ من هذا الخلق الرّفيع، يقول الإمام ابن قيم: (اعلم أنَّ لك ذنوباً بينك وبين الله تخاف عواقبها وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لك ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حتى ينعم عليك ويكرمك ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله، فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابل به إساءتك فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه وتقابل به إساءتهم ليعاملك الله هذه المعاملة، فإنَّ الجزاء من جنس العمل، فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك جزاء وفاقا فانتقم بعد ذلك أو اعف وأحسن أو اترك فكما تدين تدان وكما تفعل مع عباده يفعل معك فمن تصور هذا المعنى وشغل به فكره هان عليه الإحسان إلى ما أساء إليه).