تحدثنا في المقال السَّابق عن أحداث قصة طالوت وجالوت، وكيف قلب طالوت بتلك الفئة القليلة المؤمنة، الذل إلى عزّة، والهزيمة إلى انتصار، فهزموا عدوهم، ودحروا جنده، بعد فترة من الذل والهوان.
ونتحدَّث في هذا المقال عن الأبعاد الدَّعوية، والدروس التربوية والحركية المستفادة من هذه القصة.
فقصة طالوت مع قومه، فيها رسالة للكثير من أبناء المجتمع وقياداته، ففيها رسالة إلى الداعية حول كيفية التعامل مع الآخر والسعي إلى إصلاحه، والتعامل بما يتناسب معه.
وفيها رسالة إلى المصلحين تتمثل بضرورة تغيير الواقع السيّء الذي تعيشه الأمة وعدم الرضا بالهزيمة والذل.
وفيها رسالة للقادة، بضرورة الحزم واختبار الجنود وفق حكمة ودراية، بعيداً عن الانجرار خلف العواطف والحماسة الزائفة من قبل بعض الأفراد، بحيث تكون الخطط والبرامج مبنية على تلك المشاعر وبعيدة عن الواقع.
وفيها رسالة إلى المربين، بضرورة تحقيق التربية للأفراد والجماعة، بحيث يكون الصف الدعوي متماسكاً حتى يحقق النصر ويجلب العزة.
وأخيراً .. فيها رسالة للشعوب عبر بيان أسس اختيار الحكام والقادة، ومواصفاتهم، وعدم القبول بالتفضيل بناء على كثرة المال، أو علو النسب، دون النظر إلى الأمور الجوهرية.
الانتصار... بين الحكمة والحماسة
إنَّ قصة طالوت مع قومه، فيها دروس قيّمة لأولئك المرابطين المجاهدين، الذين يسعون لتحقيق النصر، ودحر المحتل، ومن هذه الدروس:
1- الإيمان بالله يصنع المعجزات، والتوكل على الله مع الإعداد الجيّد يحقق النصر للأمَّة، فتلك القلّة التي كانت مع طالوت وثبتت معه حتى تحقيق النصر، كانت مؤمنة بأن ميزان الانتصار بيد الله، فهم بينوا للخائفين والمنهزمين أن النصر لا يعتمد على الكثرة العددية، وإنّما يعتمد على إرادة الله ومشيئته والإيمان به والتوكل عليه وذلك في قوله تعالى: {قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. وحينما التقوا مع عدوهم وبرز الفريقان، انقطع رجاؤهم إلا من الله، وتوكلوا على الله وحده، {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. وعلى مثل هذا ينبغي للقيادة أن تربّي أفرادها، فالإيمان هو مفتاح النصر، وسبب العزَّة، والتوكل على الله أساس كل نجاح وانتصار.
"
إنَّ الأقلية المؤمنة قد تحقق نتائج عظيمة تنعكس على الأمة بأسرها ليس في الحاضر فحسب، بل للمستقبل. لذا ليست العبرة بالعدد والكثرة، وإنما بالإيمان والتسلح بالعزيمة والإعداد الجيد.
"
2- إنَّ الأقلية المؤمنة قد تحقق نتائج عظيمة تنعكس على الأمة بأسرها ليس في الحاضر فحسب، بل للمستقبل. لذا ليست العبرة بالعدد والكثرة، وإنما بالإيمان والتسلح بالعزيمة والإعداد الجيد. يقول سيد قطب – رحمه الله- : "إنَّ ثبات حفنة قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبني إسرائيل نتائج ضخمة جداً . فقد كان فيها النصر والعز والتمكين، بعد الهزيمة المنكرة، والمهانة الفاضحة، والتشريد الطويل والذل تحت أقدام المتسلطين. ولقد جاءت لهم بملك داود، ثم ملك سليمان- وهذه أعلى قمة وصلت إليها دولة بني إسرائيل في الأرض - وهي عهدهم الذهبي الذي يتحدثون عنه؛ والذي لم يبلغوه من قبل في عهد النبوة الكبرى".
3- الحماسة الجماعية قد تخدع القادة لو أخذوها على ظاهرها، دون دراسة لحال تلك الجماهير وللواقع، فكم عانى بعض قادة الحركات الإسلامية في عصرنا الحالي، من مشكلة قلة عدد الجماهير في بعض المواقف الحاسمة، وذلك نتيجة الاعتماد على حماسة الجماهير دون دراسة لأحوالهم وهممهم وثباتهم. لذا لابد من وضع هذه الحماسة على المحك، واختبارها وتقييمها. وليست هذه الظاهرة محصورة في مجتمع دون آخر، بل هي ظاهرة بشرية في كل المجتمعات التي لم تبلغ مبلغاً عالياً من الإيمان والتربية والتدريب، أو لم تعتاد على التضحية والمجابهة والصبر.
4- لابد من اختبار الصَّف الدعوي والجهادي للاطلاع على حقيقة أولئك الرِّجال، ومدى التزامهم وجاهزيتهم، وإبعاد المخذّلين والضعفاء والمرجفين والمتمردين عن الصف الدعوي والجهادي، حتى لايُضعفوا الصف ويفرّقوه.فقوم طالوت مروا بثلاث اختبارات، فأغلبهم تولوا بعد أن فرض القتال، وآخرون سقطوا في امتحان الشرب من النهر، في حين انسحب بعضهم عندما رأوا جيش جالوت، وبالتالي بقيت فئة مؤمنة حققت النصر وغيرت الحال، وهزمت الأعداء.
"
يجب على قادة الصَّف الدَّعوي والمجاهدين للعدو، أن يتعلموا صفات القيادة الناجحة الحازمة، التي لا تنغرَّ بحماسة أفرادها، وتختبر جاهزيتهم، ولا تكتفي بالتجربة الأولى، ولا تصاب باليأس والإحباط، حال ظهور بعض الظواهر السلبية داخل الصف، وفي نفس الوقت تحسم رأيها في المسائل التي تمس الصَّف الدعوي
"
5- يجب على قادة الصَّف الدَّعوي والمجاهدين للعدو، أن يتعلموا صفات القيادة الناجحة الحازمة، التي لا تنغرَّ بحماسة أفرادها، وتختبر جاهزيتهم، ولا تكتفي بالتجربة الأولى، ولا تصاب باليأس والإحباط، حال ظهور بعض الظواهر السلبية داخل الصف، وفي نفس الوقت تحسم رأيها في المسائل التي تمس الصَّف الدعوي، وتجلب له التخاذل والضعف. يقول سيِّد قطب : (وفي ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة . . وكلها واضحة في قيادة طالوت . تبرز منها خبرته بالنفوس؛ وعدم اغتراره بالحماسة الظاهرة، وعدم اكتفائه بالتجربة الأولى، ومحاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل المعركة، وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه. ثم - وهذا هو الأهم - عدم تخاذله وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة؛ ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة . فخاض بها المعركة ثقة منه بقوة الإيمان الخالص ، ووعد الله الصادق للمؤمنين).