أكد الدكتور محمد عمارة المفكر الاسلامي أنَّ الأمَّة استبعدت السياسة الشرعية وأتت بالسياسة الوضعية البراغماتية المكيافيلية، وذلك بعد أن ضمر علم السياسة الشرعية في تراثنا في ظل الاستبداد والعلمنة.
وأشار خلال استضافته مؤخراً في برنامج " الشريعة والحياة " على قناة الجزيرة إلى أنه في الوقت الذي نجد فيه تضخماً في فقه العبادات والمعاملات الاجتماعية والمالية نجد تراجعاً في فقه السياسة الشرعية في ظل الاستبداد قديماً وفي ظل العلمنة حديثاً؛ حيث ضمر علم السياسة الشرعية المؤسس على التمييز في تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم.
مشيراً إلى أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يدير سياسة الدولة بالشورى، وهناك العديد من الوقائع في السيرة التي تعزّز هذه القاعدة , فعندما كان يتصرَّف أو يقول قولاً كان الصَّحابة يسألونه سؤالاً تقليدياً: ((يا رسول الله، أهو الوحي أم الرأي والمشورة؟))؛ ففي غزوة بدر عندما نزل منزل سأله الخباب بن المنذر: أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمشورة والمكيدة؟ قال: هو الرأي والحرب، قال هذا ليس لك بمنزل)) كما نزل النبي صلّى الله عليه وسلّم على الشورى في غزوة الأحزاب، حيث أراد أن يكسر الحصار الشركي من حول المدينة، فتفاوض مع ممثلي غطفان ونجد على ثلث ثمار المدينة في نظير فتح ثغرة في هذا الحصار، لكنه قبل أن يمضي المعاهدة سأل سعد بن عبادة يا سعد بن معاذ، وعرض عليهما
الاتفاق الذي وصل إليه مع زعماء غطفان، فسأل سعد بن معاذ بمنتهى الحكمة: يا رسول الله أمرًا تحبه فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟ فقال لهم رسول الله : ((بَلْ شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ))، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا وهؤلاء مع الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه, وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعًا أو فيضًا، أفحينما كرمنا الله بالإسلام، وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف وحتى يحكم الله بيننا وبينهم, فأمسك سعد بن معاذ بالصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب.
موضحاً أنَّ موضوع العقيدة و أصول الشريعة والقيم والأخلاق ليس فيها شورى بل فيها سمع وطاعة, فليس فيها إبداع ولا ابتداع وإنما فيها إتباع، أمَّا عندما تكون الأمور متعلقة بالسياسة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير، فقد كان أكثر الناس مشورة لأصحابه في السياسة و في أمور الدولة لأن السياسة معللة بعلل ولذلك فيها الشورى وهي من الفروع، فكل ما يتعلق بشؤون الدولة هو من الفروع .
لافتاً إلى أنه حتى التيار الإسلامي في أيّ بلد من البلاد يمكن أن يكون بداخله تعددية سياسية، أما فيما يتعلق بالتوحيد والدين وفي العقائد والغيب والقضاء والقدر فهذه منطقة موحدة للأمة كلها.
وأوضح الدكتور محمد عمارة أنَّ هناك فارقاً بين السياسة بالمعنى المطلق التي هي تدبير يحقق المصالح الدولية بالمعنى الميكافيلي والعلماني و التي تحقق المصالح بالمعنى النفعي، و بين السياسة الشرعية التي هي كما قال ابن عقيل وابن القيم: التدابير التي يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، تحقق مصالح دنيوية وسعادة أخروية، أي تحقق سعادة الناس في المعاش وفي المعاد، لأنَّ الإسلام يجعل صلاح الدنيا أساس لصلاح الدين وصلاح الدنيا سبيل لسعادة الآخرة، فهذا فارق أساسي وجوهري بين الدولة الإسلامية والدولة البراغماتية العلمانية الميكافيلية، بين السياسة الشرعية وبين السياسة بالمعنى البراغماتي والنفعي.
موضحاً أنَّ السياسة بالمعنى البراغماتي يحدِّدها ويحدِّد الصواب والخطأ فيها شورى الأمة بشكل مطلق؛ أي أنَّ مجلس الشورى أو مجلس النواب أو مجلس الأمة يستطيع أن يجعل الحلال حراماً والحرام حلالاً، في المجتمعات العلمانية، أمَّا في المجتمع الإسلامي الذي يحدِّد إسلامية السياسة شورى الأمَّة المحكومة بالحلال والحرام، أي أنَّ الأمة في النظام الإسلامي مصدر السلطات شرط أن لا تحل حراماً أو تحرّم حلالاً.
وشدَّد الدكتور محمد عمارة على أنَّ الإسلام دين ودولة، دين وسياسة، أصول وفروع، ولذلك على العلماء وليس لهم فقط أن يشتغلوا في السياسة وأن تكون هناك فتاوى في الأمور السياسية، لكن يشترط أن يكون العالم مستقلاً . أما إذا أصبح العالم جزءاً من حزب سياسي أو أصبح العالم ملحقاً بالسلطة وأصبحوا فقهاء سلاطين وفقهاء السلطة فهذا أمر مرفوض.
وأوضح عمارة أنَّ التمييز بين تصرفات رسول الله صلّى الله عليه وسلم المرتبطة بالبلاغ القرآني وبين التصرفات السياسية يجعل الدولة غير معصومة وغير مقدسة، وهذا هو الذي جعل علماء أهل السنة والجماعة يقولون إنَّ السياسة والخلافة وكل ما يتعلق بها هي من الفروع ليس فيها تكفير، لأنَّ التكفير يكون في ثوابت العقائد , أي إنَّ الخلاف في التوحيد إيمان وتكفير، والخلاف في النبوات والرسالات إيمان وتكفير،أما الاختلاف في أمور السياسة من سنن لله سبحانه وتعالى، ولذلك ليس فيها تكفير.