يخطئ من يظن أنَّ ثورات الربيع العربي - وإنْ بدت في بعض مراحلها - سوف تكون عائقاً للقضية الفلسطينية ويخطئ من يعتقد أنَّ انشغال وانغماس الدول العربية التي شهدت تحرّراً من الانظمة الديكتاتورية في مشاكلها الداخلية سوف يصرفها عن الاهتمام بجوهر القضية الفلسطينية تحرير فلسطين من النهر إلى البحر؛ فالحريات التي نالتها شعوب دول الربيع العربي سيكون أثرها إيجابياً ومؤثراً في التعاطي مع القضية الفلسطينية آجلا أم عاجلاً، لذا كان منطقياً أن يكون هناك علاقة طردية بين قوّة الموقف الصهيوني في صراعه العربي وبين واستبداد الأنظمة العربية.
فالمتتبع قليلاً لتاريخ القضية الفلسطينية سيجد تراجعها توازياً مع هيمنة حفنة من الأنظمة الديكتاتورية على مقدرات الشعوب في بلدانهم مثلما هو الحال في أجل صورة في الحالتين المصرية والسورية , فكلّما اشتد وثاق الأنظمة الاستبدادية في هذه الدول على شعوبها وعلى الأخص على أبناء الحركة الإسلامية كلّما كان هناك تراجع جليٌّ في ملف القضية الفلسطينية، فضلاً عن أنَّ جميع الانتكاسات الحربية التي خاضتها هذا الدول في تعاملها مع العدو الصهيوني كان يصاحبها تقييد لحريات الشعوب والزج بأبناء الحركات الاسلامية في السجون والمعتقلات، وليس أدل على ذلك ما حدث مع الإخوان المسلمين قبل عامين من احتلال سيناء عام 1967 والاستيلاء على الضفة والجولان.
معنى ارتباط قيمة الحرية بالدفاع عن ملف القضية الفلسطينية سيطر على كلمة رئيس حركة النهضة التونسية الشيخ راشد الغنوشي خلال كلمته في مؤتمر "هلت بشائر العودة" الذي نظمه فلسطينيو أوروبا الذي تحتضنه العاصمة البلجيكية بروكسيل السبت، حيث أكّد أنَّ كل خطوة نحو الحرية والعدل والانفتاح الإعلامي هي خطوة باتجاه تحرير فلسطين، ووصف القضية الفلسطينية بأنّها أعدل وأنبل القضايا في العالم.
وأشار الغنوشي إلى أنَّ الشعب التونسي منذ ثار على الديكتاتورية رفع شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، ورفع معه "الشعب يريد تحرير فلسطين".
نفس الرِّسالة التي بعثها الغنوشي بعث بها الشعب المصري عقب الاطاحة بالرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك حيث انطلقت من ميدان التحرير مليونية نصرة القدس في رسالة واضحة ومباشرة بأنَّ مصر الثورة لن تتخلى عن القضية الفلسطينية، ودلّل على ذلك الاعتداء على سفارة الكيان الصهيوني في مصر وبعثرة محتوياته.
على كل حال حالة قلق البعض من طول أمد المرحلة الانتقالية في بلدان الربيع العربي وانشغال هذه الدول بهمومها ومشاكلها الداخلية وبتطبيق ذلك على الحالة المصرية بصفتها صاحبة رقم رئيسي في المعادلة الفلسطينية ربما يكون له مبرراته, لكن في تقديري يجب ألا يستمر هذا الشعور خاصة وأنَّ مصر التى لازالت تعاني من ارتباك المشهد الداخلي لم تدخر جهداً في الوقوف بكل وضوح مع غزَّة في حربها الأخيرة مع العدو الصهيوني حيث اختلف المشهد تماما عن الحرب السابقة، فمصر مبارك التي شاركت في حصار غزة إباَّن حرب الفرق اختلفت تماماً عن مصر مرسي خلال الحرب الاخيرة فلأوَّل مرَّة ترسل مصر رئيس وزراءها إلى غزة إبَّان العدوان في رسالة قوية للكيان الصهيوني، بل ولعبت مصر دوراً كبيراً مع الادارة الأمريكية لوقف العدوان.
على كل حال سيبقى مسار القضية الفلسطينية مرتبطاً بالوضع العام في مصر، ليس فقط بسب الوضع الجيوسياسي والتقارب الجغرافي والحضارى، ولكن بفضل القناعة الفكرية والعقائدية للقائمين على السلطة في مصر الآن، إذ كان للتيار الاسلامي طوال العقود الستة الماضية دور جوهريّ في دعم القضية الفلسطينية.
وفوق كل ذلك، فإنَّ فلسطين هي البوابة الشرقية للأمن القومي المصري، بما يجعل الوضع مرشّحاً لإعادة رسم طريقة حل القضية الفلسطينية من جديد، ورغم تقدير الجانب الفلسطيني لطبيعة الوضع الحالي بكل تعقيداته، إلاّ أنَّ الفلسطينيين لا يملكون الانتظار حتى تحقّق الحكومات العربية الجديدة شكلاً من أشكال الاستقرار، ثمَّ الالتفات إلى القضية الفلسطينية ومن ثمَّ لن يبقى أمامه سوى استثمار المناخ الذي أصبح أكثر انفتاحاً صوب القضية الفلسطينية والاعتماد على الذات في هذا الوقت، على الأقل لن يجد بعد نجاح ثورات الربيع العربي دولاً عربية تقف الى جوار الكيان الصهيوني بما يشكل بداية جديدة لإعادة صياغة دور داعم وفاعل لصالح القضية الفلسطينية، تبعد كل البعد عن الإملاءات والشروط الإسرائيلية المجحفة ومنطق الغطرسة والاستيطان.