يغلب على الناس عموماً التقليد والمحاكاة والانقياد لما هو سائد، ولما عليه الجماعة من سلوك وعقائد وممارسات{إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}، وذلك الانقياد يحقق لها الاطمئنان والراحة النفسية والاجتماعية، ويعفيها أيضاً من عناء التفكير والبحث، ولا سيّما في دولة الاستبداد والاستعباد التي تحارب العلم والعلماء، لذا يتسم سلوك الناس بالقطيعية كونه جاء بدافع تقليد لا تفكّر، وقديما قال "ابن حزم الأندلسي": "لا فرق بين مقلد وبهيمة تقاد"، وكأنه يقول أيها الإنسان إذا لم تفكر وتعقل فلا فرق بينك وبين البهيمة التي لا عقل عندها.
ويحرص المستبدون على تجهيل الناس وجعلهم مثل البهائم ليسهل عليهم قيادها، وفي ذلك يقول "الكواكبي": "والمستبدّ يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّاً وطاعةً، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقاً".
"
يحرص المستبدون على تجهيل الناس وجعلهم مثل البهائم ليسهل عليهم قيادها، وفي ذلك يقول "الكواكبي": "والمستبدّ يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّاً وطاعةً، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقاً"
"
ويرى عالم الاجتماع الفرنسي "دوركهايم" أن العقل الجمعي يعبّر عن المعتقدات والمواقف الأخلاقية المشتركة، التي تعمل كقوة على التوحيد داخل المجتمع، مما يخلق تضامناً اجتماعياً آلياً من خلال هذا التصور المشترك والمتشابه للمجتمع، ويرى "دوركهايم" أنه يوجد ارتباط ذو تأثير متبادل بين العقل الجمعي والأفكار الاجتماعية في الواقع الاجتماعي نتيجة الضغوط التي يمارسها العقل الجمعي على أفراده.
ولهذا ترى أن أصحاب التصور المشترك متضامنون آليا مع بعضهم بعضاً كما هو واضح في الأديان والطوائف، فينصرون بعضهم بعضا (ظالمين أو مظلومين) بحكم العقل الجمعي دون أدنى تفكر أول تعقل، فيرون أن قتل الآخر الذي يحمل تصورا مخالفا بطولة، ونهبه غنيمة، وغزو بلاده واحتلالها فتح مبين، وهكذا فإن مجتمع القطيع يستمر بالقتل والنهب والحقد والكره للآخر تحت ستار المقدس، ونظرة عابرة للتاريخ القديم والقريب نرى فيها تلك الصراعات التي سيطر فيها العقل الجمعي القطيعي بمباركة الهامانات، وقيادة الفراعنة، ودعم قوارين المال، فتقاتل الشيعي والسني والبروتستانتي والكاثوليكي، والمسيحي والمسلم واليهودي تحت اسم الدين والمقدس، وما الأمر في حقيقته إلا من أجل سلطة أو أهداف توسعية أو سياسية، كان مجتمع القطيع وقودها ونارها.
وعند التدقيق والنظر في العقل الجمعي، فإننا نراه في ثلاثة أقسام وهي:
أولاً: العقل الجمعي السلبي:
ومثال واضح عليه، الجانب الأخلاقي عند قوم لوط عليه السلام، فقد صور القرءان حالتهم الهيسترية مع ضيوف نبي الله نتيجة للعقل الجمعي السلبي المسيطر عليهم (هود: 77- 79).
فإتيان الرجال شهوة وترك النساء عند قوم لوط يصح تسميته بأنه سلوك قطيعي بهيمي لمنافاته للفطرة الإنسانية والأخلاق السليمة وإهدار لكرامة الإنسان، ومن العقل الجمعي السلبي الرضى بالحكم الاستبدادي والعبودية والظلم والكذب والقتل والغش والسرقة والتعري، وهذه موجودة في كثير من المجتمعات، والقتل مثلاً ليس بالضرورة أن يكون موجهاً للمجتمع نفسه بل قد يكون ممارساً من مجتمع ضد مجتمع آخر، فتجد أن العقل الجمعي يُبرر قتل الآخر تحت ذرائع شتى، والسياسة بمكيالين، داخلي للمجتمع نفسه، وخارجي للمجتمع المقهور الضحية يُبرّر ذبحه وقتله.. إلخ.
ثانياً: العقل الجمعي الإيجابي:
ويتمثل العقل الجمعي الإيجابي بالقيم الإنسانية العُليا كالحرية والعدل والصدق والعفة.. إلخ {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}.
وقد ركزت الشرائع على التقوى الفردية والاجتماعية ليكون عقل المجتمع الجمعي إيجابياً، فكلما كانت الأفكار والقيم المجتمعية راقية كان العقل الجمعي راقياً، والقيادة الراشدة التي تقود المجتمع لها دور كبير في هذا الوعي الراقي والإيجابي من خلال بثه وتشجيع الناس عليه، ومن خلال محاربة العقل الجمعي السلبي بجميع صوره وتجفيف منابعه.
"
إنَّ مهمة الأنبياء والمصلحين والمفكرين والعلماء الرئيسية تغيير السلوكيات والتصورات الجمعية السلبية والخاطئة، التي تجذَرت في وعي المجتمع لتحل محلها التصورات الجمعية الإيجابية
"
ثالثاً: العقل الجمعي النسبي:
أما الجانب الأخلاقي والسلوكي النسبي المتغير فمجاله حقل المباح، وله قوة وسلطان على الأفراد لأنه يمثل قانوناً يلتزم به الأفراد طواعية من دون أن يكون مكتوباً، وهو أقوى من القانون المكتوب، سواء برفض أمور معينة أم قَبولها، فالعقل الجمعي في المدينة غيره في القرية، كذا يختلف من طبقة اجتماعية لأخرى، ويختلف من مكان لآخر حسب المصلحة المتعلقة به، فمثلاً المهر المقدم للمرأة تختلف قيمته من مكان لآخر ويختلف من طبقة لأخرى، وكذا اللباس والأعراف والعادات المختلفة التي تقع في دائرة المباح (الأصل في الأشياء الإباحة إلاَّ النص أو ما دل عليه النص، ولا يطبق المباح إلاَّ مقيداً بنظام المجتمع وعرفه).
لا شك بأن الإنسان ينساق إلى الكثرة والجماعة وما هو شائع بحكم التقليد، وهنا لا بد أن تربى الأجيال على التفكير الحر والناقد الذي لا يسلّم لأي شيء إلا بالبرهان عليه {قل هانوا برهانكم إن كنتم صادقين}.
إنَّ العقل الجمعي الذي يسود المجتمع إذا لم ينطلق من مفاهيم رشيدة وقيم إنسانية عُليا، وإذا لم يكن قادته راشدين فسوف يكون عقلاً أهوجاً ومدمراً يُهلك نفسه بنفسه وسوف يكون خرابه ذاتياً أكثر منه خارجياً.
إنَّ مهمة الأنبياء والمصلحين والمفكرين والعلماء الرئيسية تغيير السلوكيات والتصورات الجمعية السلبية والخاطئة، التي تجذَرت في وعي المجتمع لتحل محلها التصورات الجمعية الإيجابية، وصدق الكواكبي حين قال: (والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئا، والعلماء هم إخوتهم الراشدون، إن أيقظوهم هبوا، وإن دعوهم لبوا، وإلا فيتصل نومهم بالموت).
المصدر: صحيفة جريدتنا السورية