تمرّ الأمَّة الإسلامية في أقطارها المختلفة بمرحلة عصيبة ومحنة خطيرة يصدق عليها وصف الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الشريف حيث يقول: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن ؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت))... فأرضها مستباحة ومقدساتها تنتهك وخيراتها تنهب وقرارها ليس بيدها ...
والواقع أنَّ أمتنا الإسلامية قد حباها المولى تبارك وتعالى بمقوّمات وخصائص ومزايا لو تمَّ استثمارها بالشكل المطلوب كما يحبّ ربنا ويرضى لاستطاعت أن تكون رائدة وقائدة للعالم أجمع، لكن ذلك يتطلّب جهوداً جبارة وحثيثة يتشارك فيها الحكّام الرّاشدون والعلماء العاملون والخلّص من رجال الأمَّة وأرباب الفكر والتربية والصناعات والأفكار الرّائدة حتى تنهض من كبوتها وتستفيق من غفلتها، ومن هؤلاء الرّجال الذين يؤمنون أنَّ هذا التردي الحاصل في واقع الأمَّة الإسلامية اليوم سينبعث منه فجر ساطع بالأمل من جديد، الشيخ عبد السَّلام ياسين مرشد جماعة العدل والإحسان المغربية رحمه الله حيث يقول: (ومن هذا الغثاء يأذن الله سبحانه وتعالى أن تنبعث أمة الخلافة الموعودة. ومن تلك الأنفس المنهزمة وعد الله ورسوله أن تتخلق أسد العرين، وحماة الدين).
وفي الكتاب الذي بين أيدينا (إمامة الأمَّة) يعرض الشيخ عبد السلام ياسين لأبرز معالم وسبل النهوض بهذا الأمَّة الإسلامية نحو الأستاذية والقيادة والإمامة منطلقاً من قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.(آل عمران:110).
مع الكتاب:
يعدُّ هذا الكتاب جزءاً من مشروع تأليفي كبير كان قد بدأه الشيخ ياسين منذ ثلاثة عقود؛ حيث صدر منه أربعة كتب وهي: (مقدّمات لمستقبل الإسلام)، و(رجال القومة والإصلاح)، و(الخلافة والملك)، و(في الاقتصاد: البواعث الإيمانية والضوابط الشرعية).
يقع الكتاب في إحدى عشر فصلاً من أبرزها: (مع سواد الأمَّة الأعظم- الجندية - اختيار الرّجال - التغيير – التربية والتعليم – الكرامة الآدمية - الإعلام – الاجتهاد – الاختلاف – إمامة المستضعفين ...)، ويحوي 280 صحيفة، وطبع لأوّل مرة بتاريخ 2/2/2009م.
"
ومن هذا الغثاء يأذن الله سبحانه وتعالى أن تنبعث أمة الخلافة الموعودة. ومن تلك الأنفس المنهزمة وعد الله ورسوله أن تتخلق أسد العرين، وحماة الدين
"
يجيب هذا الكتاب على جملة من التساؤلات ويعرض حلولاً لقضايا الأمَّة الإسلامية المختلفة، كما ذكر عبد الواحد المتوكل مقدّم الكتاب؛ من أهمها: كيف تسترجع إيمانها الراسخ بموعود الله، وثقتها بنفسها، واعتزازها بدينها؟ كيف تتجاوز ثقل العادات وسلبيات الماضي، وتقتحم بثبات العقبات الكؤود على درب التغيير المنشود؟ كيف تسترجع كرامتها المدوسة وحريتها المسلوبة؟ كيف يكون سيرها راشداً، يمضي في خط لاحب، ويتجنب العثرات والنكسات؟ كيف تكون الاستفادة من وسائل العصر ومبتكراته لمواجهة إعلام المستكبرين وأباطيل الدجالين؟ كيف يتم بناء الشخصية المؤمنة العالمة العاملة الواعية بمسؤولياتها عن الانتصار للمستضعفين في الأرض؟ كيف يحصل الائتلاف ويتجنّب التنازع وتتسع الصدور لاستيعاب تعدد الرؤى وتباين وجهات النظر؟
يقول الشيخ عبد السلام ياسين في هذا الكتاب: (إنَّ القومة الإسلامية ليست عبارة عن انتفاضة جماهيرية تهز أركان الظلم وقد انتهى كل شيء. ليست هديَّةً يأتي بها جند الله للأمة باردةً هنيئة مريئة. ليست إجراء إداريا يَصْلُحُ أمرُ الأمة عَقِبَ تطبيقه. إن القومة تعني، كما لا نمَلُّ نكرر، أن نَعُودَ أمةً مجاهدة كما كنا، راشدةً، تقرِّرُ مصيرَها بإرادتها الحرة، وتفرض قرارها بقوة الساعد المُنتج، وتدبير العقل المتحرر من الخرافة وفلسفة الإلحاد، وتنظيم الطاقات البشرية والاقتصادية. القومةُ أن يصبح أمرُنا شورى بيننا، أن تحمل الأمة عبء الحاضر والمستقبل).
مع المؤلف:
هو عبد السلام بن محمد بن سلام بن عبد الله بن إبراهيم، ولد عام 1928م.
حفظ القرآن الكريم وأتقن قواعد اللغة العربية وظهرت عليه علامات النبوغ والتفوّق وهو لم يتجاوز سن الثانية عشرة، ثمَّ درس أربع سنوات في معهد ابن يوسف الديني التابع لجامعة القيروان، وأكبّ على تعلّم اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنجليزية.
تولّى الإمام ياسين عدداً من المناصب والمسؤوليات التربوية والإدارية بوزارة التعليم، نذكر منها:
- مزاولة مهام التفتيش التربوي في السلكين الابتدائي والثانوي بأقاليم مختلفة.
- ترؤس مؤسسات تكوينية تابعة للوزارة منها: مدرسة المعلمين بمراكش ومركز تكوين المفتشين بالرباط.
- المشاركة والإشراف على دورات تدريبية بيداغوجية داخل المغرب وخارجه: فرنسا – الولايات المتحدة الأمريكية – لبنان – تونس – الجزائر ...
"
إن القومة تعني، كما لا نمَلُّ نكرر، أن نَعُودَ أمةً مجاهدة كما كنا، راشدةً، تقرِّرُ مصيرَها بإرادتها الحرة، وتفرض قرارها بقوة الساعد المُنتج...
"
استيقظت في الإمام ياسين الغيرة على دين الله عزَّ وجل لما رأى من تضييع حقوق الأمة ومحاربة الإسلام ودعاته، فكتب سنة 1974 رسالة "الإسلام أو الطوفان" إلى ملك المغرب الراحل الحسن الثاني (1929-1999) مذكراً وموجهاً وناصحاً. وكانت رسالة قوية المعنى والمبنى بالنظر إلى الشروط السياسية المميزة للمرحلة وإلى المضامين التي جاءت بها.
تلقى الإمام ياسين مكافأة مباشرة تمثلت في اعتقاله مدّة ثلاث سنوات وستة أشهر دون محاكمة، أمضى جزء منها في مستشفى المجانين والأمراض الصدرية.
لكنَّ المحنة لم تتوقف مع خروجه من السجن عام 1985، بل تواصل حضور أجهزة الأمن ومحاصرتها لبيته إلى حين فرض الإقامة الإجبارية يوم 30 /12/1989 التي استمرت أزيد من عشر سنوات.
كان الإمام عبد السلام مقتنعاً بفكرة توحيد جهود العاملين للإسلام، فبادر إلى محاورة ثلة من الإسلاميين وغير الإسلاميين حينئذ، لكن مبادرة الحوار والتنسيق التي قادها رفقة عدد من إخوانه لم تجد الاستجابة المأمولة فتوجهوا إلى إعلان تأسيس "أسرة الجماعة" سنة 1401 هـ/1981 لتكون جزءاً من دوحة العمل الإسلامي الناهض المجدد.
له العديد من المؤلفات باللغة العربية والفرنسية، ومنها ما تمّت ترجمته إلى لغات عديدة، نذكر منها:(الإسلام بين الدعوة والدولة، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفاً، محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى،الإسلام والقومية العلمانية، نظرات في الفقه والتاريخ مقدمات لمستقبل الإسلام، جماعة المسلمين ورابطتها ...).
توفي الشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله بعد رحلة حافلة بالعطاء والكفاح العلمي والدَّعوي والتربوي في 13/12/2012م.