"أَحَشَفاً وَسُوْءَ كِيلة؟!" .. من الأقوال العربية التي ذهبت مثلاً سائراً بين الناس مُتداولاً، وذلك أنَّ رجلاً - كما تروي كتبُ الأمثال – ابتاعَ من رجلٍ تمراً فأعطاه حَشَفاً، وأساءَ له في الكَيْل. والحَشَفُ كما في المعاجم العربية هو التَّمر الرَّدِيءُ، الذي ليس له نوى لشِدَّة رداءته، فلم يتوقف غشُّ هذا الرّجل البائع عند نوع التمر، بل انتقل إلى الانتقاص في الوزن، لتصبح الرّداءة وصفاً للغش والتطفيف في الميزان، وما أكثر هؤلاء في عالمنا اليوم!!
فالرّداءة هي وصفٌ لسلوك بشري ينتظم في سِلْكِه مجموعةٌ من التصرّفات القولية والفعلية، ويمكنني القول: إنّها سلوك منتشر منذ أن بدأ الناس يبتعدون عن الفطرة التي فطر النّاس عليها، وأدخلوا فيها شوائب تعافها النفس الأصيلة وتصرّفات تأباها العقول الحصيفة، وكلّما زاد بعدهم عنها ارتفع حجم الرّداءة وأصبحت ظاهرة خطيرة تقتل الإبداع والإحساس والمشاعر وربّما تحلق العقل والدين !
"
إنّها سلوك منتشر منذ أن بدأ الناس يبتعدون عن الفطرة التي فطر النّاس عليها، وأدخلوا فيها شوائب تعافها النفس الأصيلة وتصرّفات تأباها العقول الحصيفة
"
الرّداءة كما أنَّ لها رجالَها في كل زمن وحين، فإنَّ لها زبائنها ومروّجيها في كل عَصر ومصر، والظاهر أنَّ سلوك الرّداءة لم تكن منتشراً في زمن الإمام أبي حامد الغزالي (405-505هـ)، ولو كان كذلك لأفرده بالتأليف وخصّص له صفحات ليست بالقليلة في مؤلفه القيّم (إحياء علوم الدين)، ولعلّه إن لم يذكره بالاسم، فهو مبثوثٌ في ثنايا كتابه ضمن رُبع المهلكات.
ولم تعد الرّداءةُ مقتصرةً في الأسواق فقط كما في المثل العربي السَّابق، وإنَّما تَغلغلت في مجالات مختلفة ومتعدّدة من حياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية والإعلامية والتربوية، فحيثما يمَّمت شطرك وجدتها منتشرة أمامك ذائعة الصِّيت، لها رجالها وقنواتها ونواديها، وكلّهم يستقي عمله من ذلك التاجر المفلس آنف الذكر الذي اجتمع في تجارته الغش والتطفيف.
إنَّ الإفلاس الحقيقي ليس مقتصراً على المال والدرهم والمتاع كما يتبادر إلى ذهن الناس، وإنَّما هو أشمل وأعمّ استناداً إلى قول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصَّحيح: ((إنَّ المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا...)).
"
العلاقة هنّا بين الرّداءة والإفلاس واضحة بيّنة، إذ يجمع بينهما السلوكُ المنافي للمبادئ والأخلاق السويّة
"
فالإفلاس ماركة مسجلة لكلِّ عملٍ يفصل فيه الأخلاق والمبادئ عن الواقع العملي، وكلّما كان الإفلاس حاضراً في حياة الأفراد والمؤسسات والمجتمعات كانت الرّداءة حاضرة وبقوّة، والعلاقة هنّا بين الرّداءة والإفلاس واضحة بيّنة، إذ يجمع بينهما السلوكُ المنافي للمبادئ والأخلاق السويّة، فالظلم هو الخيط الجامع بينهما، فالغش ظلم، والتطفيف ظلم، والشتم والقذف والضرب ظلم وأيّ ظلم .. والظلم قد يكون قولاً وفعلاً، لتشترك فيه جميعُ أعضاء الإنسان وجوارحه.
فأهل الإفلاس مهما كانت توجّهات وأفكارهم ومناصبهم، فإنَّ جميعهم ينغمس في نهج الرّداءة كسلوك وأسلوب لنشر ما يؤمنون بهم، وإنْ كان فيه خروجٌ عن الواقع والأصول والأعراف، ولا غرابة في ذلك فقد سمّى المولى سبحانه ناقلي الأخبار دون تثبت وتحقيق (فسّاقاً) { إنْ جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا}. فممارسو الرّداءة من الإعلاميين هم فسّاق -بالمعنى اللغوي- لأنَّهم أخرجوا ممارسة المهنة عن إطارها المطلوب وخلطوا بين الجيّد والرّديء ليصبح لا لونَ له ولا طعمَ ولا راحة، وتحتارُ في كثيرٍ من الأحيان أن تجدَ لها اسماً أو وصفاً سوى الرّداءة، فكانوا من أهل الإفلاس بالكلمة والصَّوت والصُّورة.
والإعلاميون في المؤسسة الواحدة شركاء في إنتاج الرّداءة وتسويقها وزخرفتها إلى النّاس، ومساهمون في إفساد الذّوق العام والتشويش على نقاء الفطرة وصفائها، فالمسؤولية لا تقتصر عن الإدارة والتمويل فحسب، وإنَّما تقع على المنتج والمدير والمعدّ والمحرّر والمصوّر ...
"
إن لم تجد مخلصين جادين للقضاء عليها ووضع حدٍّ لانتشارها واستفحالها بمناهج علمية وخطط عملية، فإنَّ المجتمع غير محصّن بانتقال العدوى إليه
"
وغيرَ بعيدٍ عن أهل الإفلاس في البيت الإعلامي، تحطّ الرّداءةُ رِداءَها الدَّاكن على المُفلسين في عالم السياسة الذي أصبح فضاءً واسعاً تجتمع فيه "النطيحة والموقوذة والمتردية وما أكل السّبع"، خصوصاً بعد ربيع حافل بالألوان الزاهية والقاتمة من لون بياض الياسمين إلى حمرة الدّم القاني.. وشعارهم في الصباح والمساء "قد خلا لك الجوّ فبيضي واصفري .. ونقري ما شئت أن تنقري"؛ إذ لا حرج عليهم في تسويق بضاعتهم المغشوشة على القطيع من الأتباع، فتحت عباءة الرّداءة ما لا عين رأيت من الأحلام الموعودة والآمال المنشودة، ولا أذن سمعت من الكذب والتضليل والتزوير، ولو كانت فاتورة تلك البضائع على حساب الأرض والعِرض!!
ليست الرّداءة داءً لا دواء له، لكنّها ظاهرة تفشّت وانتشرت في عالمنا اليوم أفراداً ومجتمعات مؤسسات، ولا تقتصر على الإعلاميين والسياسيين فحسب، وإن كان هؤلاء هم أوَّل مَنْ ظهرت عليه أعراضُ الرّداءة المُعدية، التي إن لم تجد مخلصين جادين للقضاء عليها ووضع حدٍّ لانتشارها واستفحالها بمناهج علمية وخطط عملية، فإنَّ المجتمع غير محصّن بانتقال العدوى إليه، وحينها لا ينفع ترديدنا للمثل العربي بعد أن وقع الفأس على الرّأس "أحشفاً وسوء كيلة " !!.