ورد في الأثر: ((إنَّ لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرَّضوا لها لعلَّ أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبداً))، فمن النفحات الإلهية التي مَنَّ الله بها على عباده المؤمنين كل عام شهر رمضان المبارك بأيامه ولياليه، وهي نعمة وهدية وضيف عزيز نسعى لقبولها واستقبالها كما يرضي ربّنا سبحانه، وقد كانت سلفنا الصالح يحنّ لهذا الشهر ويشتاق إلى العبادة فيه ويتنافس على الطاعات والمبرّات فيه.
ونحن على أبواب هذا الشهر الفضيل، لا أفضل من أن نتعرّض لنفحاته قبل قدومه واستعداداً له بالتوبة النصوح إلى الله سبحانه، وفتح صفحة جديدة مع الله عهداً على الاستقامة والإنابة والعمل المتواصل على الصراط المستقيم وعلى هدي الرّسول عليه الصّلاة والسَّلام.
إنَّ التوبة ليست كلاماً ولا أمنيات وإنّما خطط عملية لمحو أخطاء الماضي وإزالة درن الإثم والمعاصي من القلوب والجوارح، إنَّها عزمٌ وإصرار وتصميم على تدارك النقص وإصلاح الخلل وتقويم الانحراف، ومهما بلغت الذنوب والأخطاء والتقصير والمعاصي، فإنَّ رحمة الله مغفرته قريبة من التائبين المُنيبين، قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وباب التوبة مفتوح لا يغلق حتى تبلغ الرّوح الحلقوم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ)). رواه الترمذي في سننه)، أو إذا طلعت الشمس من مغربها، قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: ((مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ)). (رواه مسلم في صحيحه).
"
من النفحات الإلهية التي مَنَّ الله بها على عباده المؤمنين كل عام شهر رمضان المبارك بأيامه ولياليه، وهي نعمة وهدية وضيف عزيز نسعى لقبولها واستقبالها كما يرضي ربّنا سبحانه
"
للتوبة صَلاة..
من السنن النبوية المهجورة صلاة التوبة، فمن رحمته تعالى بهذه الأمَّة أن شرع لهم عبادة من أفضل العبادات، يتوسَّل بها العبد المذنب إلى ربِّه، رجاء قبول توبته، وليس لهاته الصلاة وقت محدّد، لكن أحببنا أن نذكّر أنفسنا وإيّاكم بهذه السنة والعبادة المهجورة ونحن نتعرّض لنفحة إيمانية من نفحاته في قدوم شهر رمضان المبارك، لنفتح صفحة جديدة مع الله في أفضل أيام الله.
دليلها..
عن أبي بكر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((ما من رجل يذنب ذنبًا، ثم يقوم فيتطهر، فيحسن الطهور، ثمَّ يستغفر الله عزَّ وجلّ إلا غفر له))، ثمَّ تلا: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. (آل عمران). أخرجه الترمذي وابن ماجه وأبو داود، وقال الترمذي في سننه: (حديث حسن).
وفي مسند الإمام أحمد عن أَبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا - شك أحد الرواة - يُحْسِنُ فِيهِمَا الذِّكْرَ وَالْخُشُوعَ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، غَفَرَ لَهُ)).
معالمها و ركائزها..
من خلال الحديثين السَّابقين نجد أنَّ أهم معالم هذه الصَّلاة وسرّ قبولها ونيل جوائزها يكمن في ثلاثة ركائز مهمَّة وهي:
"
إنَّ التوبة ليست كلاماً ولا أمنيات وإنّما خطط عملية لمحو أخطاء الماضي وإزالة درن الإثم والمعاصي من القلوب والجوارح، إنَّها عزمٌ وإصرار وتصميم على تدارك النقص وإصلاح الخلل وتقويم الانحراف
"
أولاً: إحسان الطهور: ومعنى إحسان الطهور هو: أن يتوضأ وضوءًا مستوفيًا لشروطه وأركانه غير مخل بشيء من فروضه، قال العيني في عمدة القاري: (إحسان الوضوء الإتيان به تاما بصفته وآدابه وتكميل سننه). وفي مرقاة المفاتيح: (إحسان الوضوء وهو الإتيان بالمكملات أفضل من مرتبة الاقتصار على الواجبات).
ثانياً: الذكر والاستغفار: والاستغفار المأمور به أن يكون مصحوبًا بالتوبة الجامعة لشروطها، قال القاري في شرح هذا الحديث: (والمراد بِالِاسْتِغْفَارِ التَّوْبَةُ بِالْمُدَاوَمَةِ، وَالْإِقْلَاعِ، وَالْعَزْمِ عَلَى أنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ أَبَدًا، وَأَنْ يَتَدَارَكَ الْحُقُوقَ إِنْ كَانَتْ هناك).
ثالثاً: الخشوع: قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (أصل الخشوع لين القلب ورقنه وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء، لأنها تابعة له). فالخشوع محله القلب ولسانه المعبر هو الجوارح، وقد وقع الوعد بالمغفرة على صلاة ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، كما أخرج البخاري ومسلم في الصَّحيحين عن حمران مولى عثمان أنَّ عثمان - رضي الله عنه - دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إنَائِهِ، فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا وَقَالَ مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه.
وقد حمل العلماء هذا على عدم الاسترسال مع الخواطر وحديث النفس، وأمَّا ما يهجم على المكلف من غير اختياره فيدفعه عن نفسه: فليس مرادًا، قال الصنعاني -رحمه الله-: أي: لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِيهِمَا بِأُمُورِ الدُّنْيَا، وَمَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالصَّلَاةِ، وَلَوْ عَرَضَ لَهُ حَدِيثٌ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، بِمُجَرَّدِ عُرُوضِهِ عُفِيَ عَنْهُ، وَلَا يُعَدُّ مُحَدِّثًا لِنَفْسِهِ.