أقسم المولى تبارك وتعالى بأجزاء من الزَّمن، فقال:{والليل}، وقال:{والشمس}، وقال:{والعصر}، وقد أوضح المفسّرون أنَّ الحكمة في هذا القسم تكمن في توجيه الأنظار على أهمية الوقت ووجوب المحافظة عليه والاستفادة منه في التقرّب إليه بالطاعة والإنابة، وفي مخلوقاته بالتفكر والتدبر والموعظة، ومن هذا المبدأ التربوي انطلقت توجيهات الرّسول صلّى الله عليه وسلّم لصحابته وأمته أجمعين، ففي الحديث الصحيح قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ )). قال بعضُ السلف: (إنَّ المغبون من غبن الليل والنهار) فليس المغبون هو الذي اشترك في بضاعة فذهبت أو أكثرها، أو اجتهد لينجح في دراسة ففشل، فأكبر مغبون في هذه الدنيا هو المغبون في عمره، فيذهب الليل في المرح والسهر والنوم، ويذهب النهار في اللهو واللعب وفي أعمال لا تنفعه، فغبن عمره، وفي النهاية يجد نفسه نادماً حاسراً يتمنى الرّجعة، قال تعالى عنهم في كتابه الكريم: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. (المؤمنون:99-100).
والاستفادة من الوقت نعمةٌ من نعم الله الكثيرة التي يُغدقها على الخلّص من عباده لتكون أعمالهم الصَّالحة مضاعفة وإن كانت أعمارهم قليلة، وقد أرشدنا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم إلى هذا المعنى الجليل، فعن أَنَس بن مالك رضي اللَّهُ عنه قال: سمعتُ رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)). (متفق عليه).
"
ليس المغبون هو الذي اشترك في بضاعة فذهبت أو أكثرها، أو اجتهد لينجح في دراسة ففشل، فأكبر مغبون في هذه الدنيا هو المغبون في عمره، فيذهب الليل في المرح والسهر والنوم، ويذهب النهار في اللهو واللعب وفي أعمال لا تنفعه، فغبن عمره، وفي النهاية يجد نفسه نادماً حاسراً يتمنى الرّجعة
"
فيكتب للمرء العمر الطويل لفعله وعمله الصَّالح وهو صلة الأرحام، وهو ما توافقت عليه شروح العلماء لهذا الحديث، التي منها: حصول القُوَّة في الجسد. ومنها: بِالْبَرَكَةِ فِي عُمْره، وَالتَّوْفِيق لِلطَّاعَاتِ، وَعِمَارَة أَوْقَاته بِمَا يَنْفَعهُ فِي الْآخِرَة، وَصِيَانَتهَا عَنْ الضَّيَاع فِي غَيْر ذَلِكَ.
ومنها: يُكْتَبُ عُمُرُه مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ كَأَنْ يُقال: (إنْ وَصَلَ رَحِمَهُ فَلَهُ كَذَا وَإِلَّا فَكَذَا، فتَكُون الزّيَادَة فِي العُمرِ زيَادَة حَقِيقِيّة). كما في فتح الباري وشرح النووي على صحيح مسلم.
فقيمة العمر تكمن فيما يقدّمه الإنسان لنفسه ولأسرته وأمته في دقائقه وساعاته من أعمال صالحة، فآية الليل والنهار تعملان فينا وهما آيتان من آيات الله الكونية، لتكونا عبرة في اختلافهما، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً}. (الفرقان:62).
قال التابعي الجليل الحسن البصري: (إنما أنت هذه الأيام فإذا مضى منك يوم فقد مضى بعضك). وقال الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (ألا وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، وإن الدنيا قد ولت مدبرة، وإن لكلٍ منهما بنين فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا ومن أبناء الدنيا). فكل يوم يقرِّبك ويدنيك من القبر ومن الآخرة، ويبعدك عن الدنيا ومتاعها وعن لحظة الميلاد، والعمر إنما هو بين الميلاد إلى الوفاة.
ولو تأمل أحدنا الآن إلى أن يسير لوجد نفسه يمضي بخطوات ثابتة إلى الموت لا رجوع عنها، فكل يوم يمضي لن يعود، وفي كل عمل كبير أو صغير مكتوب في صحيفته، قال الله تعالى: {وكل صغير وكبير مستطر}، قال العلاّمة ابن عاشور في تفسيره: (فكل صغير وكبير أعم من كل شيء فعلوه، والمعنى: كل شيء حقير أو عظيم مستطر، أي: مكتوب مسطور، أي: في علم الله تعالى، أي: كل ذلك يعلمه الله ويحاسب عليه).
سعد بن معاذ البركة في العمر
ومن النماذج الحيّة في حياة صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم سيرة الصحابي سعد بن معاذ رضي الله عنه الذي كان عمره سبعة وثلاثين عاماً كان عمره حين وفاته، من بني الأشهل من الأوس من الأنصار، حَبَاهُ الله بنعمة الإسلام فأَسلَمَ على يد مصعب بن عمير عندما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار يدعوهم للإسلام وبإسلامه أَسلَمَ بنو عبد الأشهل جميعهم.
"
كان سعدُ رضي الله عنه يُحِثُ قومه على الجهاد وعلى مساندة النبي صلى الله عليه وسلم في حربه ضد عصابة الكفر، وكما كان رضي الله عنه يمتثل لأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضرب أروع مثال
"
وكان سعدُ رضي الله عنه يُحِثُ قومه على الجهاد وعلى مساندة النبي صلى الله عليه وسلم في حربه ضد عصابة الكفر، وكما كان رضي الله عنه يمتثل لأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضرب أروع مثال، فعندما استشار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم القوم في الخروج إلى بدر، قال سعد بن معاذ: (يا رسول الله، أيّانا تريد؟ يقصد الأنصار فو الذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ولا لي بها علم، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي بمين لنسيرنَّ معك، ولا نكون كالذين قالوا لموسى: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ). (المائدة: 24). ولكن أذهب أنت وربك إنا معكم مُتبعون، ولعل أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره، فأنظر الذي أحدث الله إليك فامض، فصل حِبَال من شئت واقطع حبال من شئت، وعَادِ من شئت وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا ممَّا تركت، وما أمرت به من أمر فأَمرُنَا تبع لأمرك، فو الله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك).
عاش الصَّحابي الجليل سعد بن معاذ بعد إسلامه ست سنوات فقط، ليحصل في تلك السنوات على مناقب جليلة وفضائل عميمة، نذكر بعض ما أوردته كتب الحديث والسيرة لتكون لنا فيه موعظة وعبرة:
عن عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ.
وعن ابن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبره -يعني سعد بن معاذ -فاحتبس، فلما خرج قيل: يا رسول الله، ما حبسك؟ قال: ضم سعد في القبر ضمَّة فدعوت الله فكشف عنه.
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسُول الله صلَّى الله عليه وسلّم لسعد: هذا الرَّجل الصَّالح الذي فتحت له أبواب السماء شدّد عليه ثمَّ فرج عنه.
"
لا يدري أحدُنا كم سيعيش في هذه الحياة الدنيا وكم سيعمّر، فذلك في علم الغيب عند علاّم الغيوب، ولكن نعلم وندرك أنَّ قيمة العمر بما يقدّمه الإنسان
"
عن جابر رضي الله عنه: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: اهتزَّ العرش لموت سعد بن معاذ.
العبرة..
لا يدري أحدُنا كم سيعيش في هذه الحياة الدنيا وكم سيعمّر، فذلك في علم الغيب عند علاّم الغيوب، ولكن نعلم وندرك أنَّ قيمة العمر بما يقدّمه الإنسان، وقد قال أحمد شوقي:
وكن رجلاً إن أتوا بعده ... يقولون: مرَّ وهذا الأثرْ
وبين الميلاد والوفاة مسيرة حياة وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، خصوصاً ونحن على أبواب شهر فضيل فيه أيام الصيام والتقرّب إلى الله، وفيه ليالي القيام والتهجد والتبتل إلى المولى سبحانه وتعالى، فهيئناً لمن أدرك هذه النفحات وأخذ منها بحظ وافر.