تتميّز دمشق بأنها منبع من أهم منابع العلم والمعرفة والدعوة والتربية في عالمنا العربي والإسلامي وموئل لطلابها من أصقاع العالم كافة عبر تاريخها المزدهر، وأصبح العلم في تلك المدينة العريقة ميراثاً تتنافس في الظفر به العائلات الدمشقية التي توارثت العلم وأخذت منه بحظ وافر، ذلك أنَّه ميراث الأنبياء الذين لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً وإنَّما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق عليه الصًّلاة والسّلام، ومن العائلة الدمشقية التي كان لها نصيبٌ منه عائلة (شميس) التي ينتمي إليها محاور (بصائر) الدكتور أحمد فؤاد شميس، فجدّه ووالده رحمهما الله كانا من أهل العلم والمعرفة والتقوى والصلاح والمشاركة الفاعلة في تربية الجيل وتزويده بالعلم النافع، وقد ورث العلم والتربية والدعوة عنهما وواصل مسيرتهما.
(بصائر) حاورت الدكتور أحمد شميس، ورجعت به إلى ذكريات قديمة ووقائع تمتد إلى سنوات الخمسينيات إلى الثمانينيات وحرّكت أشجان بعض جوانب الواقع التربوي والدعوي في دمشق، وكان للثورة نصيبٌ من الحديث من خلال دور العلماء فيها وأسباب تأخر النصر، فإلى تفاصيل الحوار:
بصائر: بداية، لو تفضلتم بتقديم لمحة مختصرة عن سيرتكم العلمية والدَّعوية لقرّاء ومتابعي موقع (بصائر).
د. أحمد شميس: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، والحمد لله رب العالمين والصَّلاة والسَّلام على سيّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد، فقد نشأت في بيئة علمية فجدي ووالدي كانا من العلماء المعروفين رحمهما الله تعالى، وقد دفع بي والدي منذ كنت صغيراً إلى الانتساب إلى جامع زيد بن ثابت الأنصاري، فانتسبت إلى حلقاته العلمية منذ عام 1965، وانتقلت أطلب العلم على كبار مدرسيه؛ فكنت أحضر الدرس العام للشيخ عبد الكريم الرفاعي رحمه الله، وقرأت عليه مع مجموعة صغيرة كتاباً واحداً، و قرأت على الشيخ أبو الحسن الكردي كتاب عمدة السالك في الفقه الشافعي وقرأت على الشيح الدكتور محمَّد عوض والشيخ أسامة الرفاعي والشيخ جمال الدين السيروان و الشيخ نور الدين قره علي والشيخ عبد الفتاح السيد والشيخ عبد الرزاق الشرفا مختلف العلوم الشرعية في حلقات المسجد، ثمَّ لازمت سيدي الشيخ أسامة الرفاعي حفظه الله في درسه الصباحي في جامع الرّفاعي بكفر سوسة منذ 16 عاماً حتى توقفه بسبب الثورة، واستفدت جداً من خلال هذا الدرس المميّز نسأل الله أن يعود إلى سابق عهده ،كما قرأت على والدي النحو والصرف، وقرأت على الشيخ احمد نصيب المحاميد و الشيخ عبد الرؤوف أبو طوق و الشيخ عبد الغني الدقر وأفدت كثيراً من الشيخ هشام الحمصي والدكتور مازن المبارك وغيرهم بارك الله بهم، وقد قمت بالتدريس في جامع زيد منذ عام 1970 من خلال حلقات علمية وكذلك جامع الزهراء بالمزة وجامع الرفاعي بكفر سوسة، ودرَّست بثانوية الشيخ عبد الكريم الرفاعي الشرعية منذ تأسيسها مادة الخطابة أيضاً، و كنت خلال ذلك أكلّف بالخطابة في بعض مساجد دمشق حتى استلمت جامع الإسعاف الخيري بعد وفاة الوالد رحمه الله عام 1996، بالإضافة إلى ذلك تابعت دراستي في المدارس العامة بدمشق حتى حزت على الدكتواره من الجامعة الإسلامية العليا بكالابار عن أطروحة بعنوان: "الأديب مصطفى صادق الرافعي وأثره في الأدب الإسلامي".
بصائر: والدكم الشيخ فؤاد شميس رحمه الله كان من تلامذة الدكتور مصطفى السباعي المراقب العام للإخوان المسلمين رحمه الله، حدّثنا عن أبرز المحطات والمواقف مع والدكم.
د. أحمد شميس: والدي رحمه الله طلب العلم الشرعي على والده الشيخ رشيد الذي كان من أبرز طلاب الشيخ جمال الدين القاسمي وتأثَّر به جدّاً لأنَّه كان ينبذ التقليد الأعمى رحمهما الله، كما قرأ والدي على الشيخ الأصولي محمود العطار والشيخ الطبيب أبو اليسر عابدين.
ولمَّا بدأت جماعة الإخوان المسلمين بالعمل كان الوالد من أوائل من عمل تحتها يعني أستطيع أن أقول: إنَّ الوالد كان في الصَّف الثاني من قادة الإخوان بسورية بعد السباعي والمبارك وغيرهما، وقد تأثرت من خلال ذلك بدعوة الإخوان وأحببتهم ولكن لم أنتسب إليهم احترازاً من سياسة القمع الذي مورست عليهم وفق القانون رقم 49 الذي أصدره الطاغية الأسد الأب، ولكن تعلمت منه الجرأة والوقوف في وجه الظلم وعدم المهادنة والخطابة الفعَّالة التي تمسّ حياة الناس وعدم الركون والتماوت أمام العلماء إن ظهر منهم أي غلط فهو ليسوا معصومين، وكما تعلمت أنَّ الداعية يجب ألا يتكسب من خلال دعوته وإنَّما عليه أن يتخذ عملاً يعينه على تحمّل أعباء الحياة. وقد ذكر لي الوالد رحمه الله حادثة جرت معه؛ وهي أنَّ الدكتور السباعي كان يصطاف في قرية أشرفية الوادي قرب دمشق، وكان شباب الإخوان يزورون الشيخ، فقام الوالد مرَّة بجلب بعض المواد التموينية مساعدة للشيخ على إطعام ضيوفه، وعندما شاهد الشيخ تلك المواد غضب غضباً شديداً، وصار يقول للوالد: أنا ما لي شيخ طريقة، ولا أقبل هذه المواد أو غيرها، خذها إلى بيتك فأولادك أحقّ بها، أنا لا أعيش على حساب الآخرين."
يا شيخ فؤاد، أشهد الله أني سامحت كل شخص أساء لي إلاَّ شيخاً لي معه موقف أمام الله، وهو الشيخ أحمد كفتارو، عندما وقف مع مرشح حزب البعث والعلمانيين ضد الشيخ السباعي
"
ومن مواقف الشيخ أنَّه قال أمام الوالد: يا شيخ فؤاد، أشهد الله أني سامحت كل شخص أساء لي إلاَّ شيخاً لي معه موقف أمام الله، وهو الشيخ أحمد كفتارو، عندما وقف مع مرشح حزب البعث والعلمانيين ضد الشيخ السباعي، ومواقف الوالد يشهد له فيها علماء عصره أمام جمال عبد الناصر عندما كان الوالد عضواً في الاتحاد القومي، وأمام شكري القوتلي وعبد الحميد السراج ومحمَّد عمران وحافظ الأسد، فلم يهادن ظالماً وما نافق لأيٍّ منهم.
وأذكر مرَّة أنَّه جلب له مصوّر صورة له مع حافظ الأسد كبيرة فشاهدها جار لنا في محل الوالد بالحريقة، فقال الجار للوالد: يا شيخ فؤاد، ضع هذه الصورة بصدر المحل فلا يستطيع أيّ موظف أمني أو تمويني أن يتكلم معك بأي شيء. فغضب الوالد وقال له: (فشر) أنا لا أعتز إلا بالله، وقد رشح الوالد نفسه إبَّان الوحدة مع مصر ممثلاً عن دمشق في الاتحاد القومي وفاز بتلك الانتخابات، وكان بيانه التالي: إنَّ لكل جسم روحاً وإنَّ روح العروبة الإسلام وإنّي نذرت نفسي للدّفاع عن العروبة الحقة، انتخبوا صوت الإسلام الداوي محمَّد فؤاد شميس.
وكان محله التجاري لبيع الأقمشة موئلاً للتجَّار لحلِّ خصوماتهم، وكان لا يمرّ شيخ أو داعية إلاَّ ويزور محله، فكنت ممَّن أدركت أن زاره في محله الأستاذ عصام العطار والأستاذ محمد المبارك والأستاذ زهير شاويش والشيخ عبد الكريم الرفاعي والشيخ حسن حبنكة والشيخ علي مشعل، وحدَّثني إخوتي أنَّ الأستاذ السباعي كان يزوره في المحل، ولكن لم أدرك ذلك.
بصائر: بما أنَّ نشأتكم كانت في جامع زيد بن ثابت يقال: إنَّ هذا المسجد كان معقلاً لجماعة الإخوان المسلمين؟ وكيف كان ردّة فعل النظام الأسدي ضد المسجد والجماعة في أحداث الثمانينات؟
"
عندما كنّا شباباً أعجبنا بكتب الإمام الشهيد حسن البنا وسيّد قطب ومحمَّد قطب، فكنا نقرأها فأثر ذلك في معظم الشباب في المسجد كغيرهم
"
د.أحمد شميس: يا أخي، انقل للتاريخ كما كان يحدثني الوالد أنَّ الشيخ عبد الكريم الرفاعي كان هو رئيس شعبة الإخوان في منطقة القنوات وتوابعها، ولكن عندما ضيّق على الإخوان في الخمسينيات ترك الشيخ عبد الكريم الإخوان كغيره، والتفت إلى تأسيس العمل المسجدي النافع، وعندما كنّا شباباً أعجبنا بكتب الإمام الشهيد حسن البنا وسيّد قطب ومحمَّد قطب، فكنا نقرأها فأثر ذلك في معظم الشباب في المسجد كغيرهم، فعندما بدأت أحداث الثمانيات وجد الإخوان المسلمون أرضاً خصبة في طلاب جامع زيد، فانضم عددٌ منهم لتلك الثورة، ولكن من شدَّة قمع النظام استشهد عددٌ من طلاب المسجد كالحافظ الجامع الطبيب درويش جانو وطريف عبد الصمد وعدنان خوجة زادة وأخيه غسان خوجة زادة، وهما ابناء اختي الكبيرة رحمها الله وغيرهم، كما اعتقل الكثير ... ثمَّ أغلق العمل المسجدي وأمر أكثر كبار مدرسي المسجد بمغادرة سورية، فتوقف العمل لفترة بسيطة، ثمَّ عاد النشاط بعودة الشيخ أسامة حفظه الله من سفره فلمَّ شمل الشباب وعادت نهضة كبيرة، و توقفت الآن بسبب هذه الأحداث ونرجو لها العودة القريبة.
بصائر: أنتم عضوٌ فاعل في جمعية التمدن الإسلامي، ما أهداف هذه الجمعية وما دورها في المجتمع الدمشقي والحراك الثقافي والعلمي والدَّعوي فيه؟"
تعتبر جمعية التمدّن الإسلامي ثاني أبرز الجمعيات الإسلامية ظهوراً في سورية بعد جمعية "الهداية الإسلامية" ، و هدفها تبيان الإسلام تبياناً صحيحاً والعمل على نشره بكافة الوسائل
"
د. أحمد شميس: تعتبر جمعية التمدّن الإسلامي ثاني أبرز الجمعيات الإسلامية ظهوراً في سورية بعد جمعية "الهداية الإسلامية" ، و هدفها تبيان الإسلام تبياناً صحيحاً والعمل على نشره بكافة الوسائل، وقد تأسست في دمشق عام 1932م بدعوة من الأستاذ الفاضل المرحوم أحمد مظهر العظمة، وقد تولّى رئاسة الجمعية في البداية الشيخ محمد حمدي الأسطواني السفرجلاني أحد أبرز مؤسّـسيها، وهو أحد مؤسسي جمعية "الهداية الإسلامية" أيضاً؛ وتشكّل مجلس إدارتها الأول من: عبد الفتاح الإمام، عبد الرّحمن الخاني، عبد الحكيم المنير، أحمد حلمي العلاف، عبد الحميد كريم، إضافة إلى أحمد مظهر العظمة الذي حمل مسؤولية أمانة السرّ فيها، وبقي على ذلك حتى وفاة آخر رؤسائها الشيخ محمد حسن الشطي عام 1962 م. ليتمّ انتخابه رئيساً للجمعية من ذلك الوقت؛ وكان ـ كما يروي الشيخ علي الطنطاوي عنه ـ "يحرّر مجلتها، ويكتب فيها، ويقوم على ناديها، ويدعو المحاضرين إليه، ويحاضر هو فيه، وكان يدوّن بنفسه أسماء المشتركين في المجلة ويكتب هو عناوينهم بيده، ويلصق الطابع بذاته، ليوفر على الجمعية أجرة موظف يتولى هذا العمل، وظل على ذلك حتى وفاته عام 1982 م. اصدرت بذلك مجلتها منذ عام 1932 حتى توقفت عام 1982 و قد كتب فيها كبار كتاب العالم الاسلامي وقد انتشرت في أكثر دول العالم الاسلامي وأثرت المكتبة الاسلامية بينابيع خصبة من العلم والأدب والثقافة وأنشأت عدة مدارس لمحو الأمية و كان لها دورها على الساحة السياسية في سورية وكان أكبر علماء العالم الاسلامي يزورنها كالشيخ أبي الحسن علي الحسن الندوي وغيره، ثمَّ ضيّق الأمر عليها بعد ذلك، فكان آخر من استلمها من الرَّعيل الأول الشيخ محمَّد أبو الفرج الخطيب فقام على إدارتها خير قيام، ثمَّ توفي الشيخ أبو الفرج فاستلم شؤونها والقيام عليها ولده الشيخ أحمد معاذ الخطيب الحسني فدعاني بارك الله به حتّى أكون ضمن مجلس إدارتها عام 1997 فكنت أمين سرّها، فبدأنا العمل مع بعض الإخوة الفضلاء على متابعة أهدافها ضمن الإمكانيات الأمنية المتاحة، فأقمنا دورة خطابة نخرّج بها عدد من الخطباء، ودعونا بعض الدعاة لإلقاء محاضرات فيها، ولكن فوجئنا بعد ذلك بالسلطات الأمنية تطلب منّا التوقف عن ذلك فاقتصر نشاطنا على تفعيل مستوصفها الخيري المقام بجامع السباهية، والذي يضمّ عدَّة عيادات والقيام بمساعدة بعض العائلات الفقيرة .
كان طموحنا أكبر من تبرعات وغيره، فهذا العمل يقوم به تجار صادقون أمَّا الدَّعوة الى الله فهو دور العلماء ولكن للضرورة أحكام ..
بصائر: كيف كان الواقع التربوي والدَّعوي قبل انقلاب الأسد (الحركة التصحيحية)، وكيف أصبح في عهد نظام الأسد (الأب والابن)؟ بعبارة أخرى: هل استطاع نظام الأسد خلال حكمه في نشر أفكار البعث في المجتمع والقضاء على الهوية الإسلامية وتغريب الأخلاق؟
"
قام نظام البعث بمحاولة نزع هوية الإسلام عن السوريين واستخدم كل الوسائل والإمكانيات، ولكن باء بالفشل الذريع، فكانت المساجد تمتلئ صيفاً شتاء بطلاب العلم بينما معسكرات الطلائع تراها خاوية وأكبر دليل على فشلهم في ذلك أيضاً هي هذه الثورة التي تمخضت عن شباب ثائر حرّ رفع نداء الله أكبر ونداء "ما لنا غيرك يا الله"
"
د. أحمد شميس: لم أع بالقدر الكافي الواقع الدَّعوي قبل استلام حزب البعث السلطة إثر انقلاب 8 آذار 1963 ولكن رأيت نشاطاً ملحوظاً للإسلاميين في فترة الانفصال عن الوحدة مع مصر، وأذكر أنه في تلك الفترة كان نشاط الإسلاميين غير محدود بحدود، وكان لهم من يمثلهم في المجلس النيابي بانتخابات نزيهة، ولا زلت أذكر الصورة الانتخابية لجماعة الإخوان المسلمين مكتوباً فيها ( من أجل دستور أساسه الاسلام انتخب زهير شاويش عمر عودة الخطيب عصام العطار )، ولكن بعد هذا الانقلاب المشؤوم ضيّق على الإسلاميين فأجبروا على الخروج من سورية؛ كالأساتذة علي الطنطاوي والدواليبي والزرقا والعطار وأبو غدة والمبارك وشاويش وغيرهم، وقام نظام البعث بمحاولة نزع هوية الإسلام عن السوريين واستخدم كل الوسائل والإمكانيات، ولكن باء بالفشل الذريع، فكانت المساجد تمتلئ صيفاً شتاء بطلاب العلم بينما معسكرات الطلائع تراها خاوية وأكبر دليل على فشلهم في ذلك أيضاً هي هذه الثورة التي تمخضت عن شباب ثائر حرّ رفع نداء الله أكبر ونداء "ما لنا غيرك يا الله"، والله كنت أرى في المظاهرات شباباً غير ملتزم مظهرهم واضح من إطالة شعر ولبس ضيق وشابات سافرات ... ولكنَّ الجميع يهتف سيّدنا محمَّد قائدنا للأبد، كذلك جمعني المعتقل مع عدَّة شباب على هذا النحو، ولكن كانت قلوبهم عامرة بالإيمان والتسليم لمشيئة الله . فلم يستطع حزب البعث أو غيره عن نزع هوية الإسلام من بلادنا إن شاء الله وحديث الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم معروف: ((سلّ عمود الإسلام من تحت رأسي فأتبعته بصري فإذا هو بالشام)). نسأل الله أن يحفظ الشام وأهلها وسائر بلاد المسلمين من كيد عدو غادر أو سلطان جائر.
بصائر: اللهم آمين، كنت خطيباً في مساجد دمشق، هل فعلاً كانت المساجد والمنابر تؤدي دورها المطلوب، أم إنَّ هناك خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها؟
د. أحمد شميس: طبعاً كانت هناك حدود حمراء لا يمكن تجاوزها؛ أهمها عدم التكلّم عن أي مسؤول وتجنّب الكلام على الطائفية والدَّعوة دائماً الى الوحدة الوطنية المزعومة ومن ثمَّ ضيّق الأمر أكثر بعدم الكلام على النصارى وعلى شيعة إيران وفضح مؤامراتهم. وكان جلّ الخطباء ينأون عن هذا الخط بمسافة كبيرة، لكن كان هناك قلة من الخطباء لا يتجاوز عددهم أصابع اليد من يقف عند هذا الخط أو يتجاوزه، فكانت تقوم الأجهزة الأمنية بعزله، ومنهم من كان يستدعى إلى الأمن لتنبيهه كما فعلوا معي عدَّة مرَّات.
بصائر: في بداية الثورة، اعتقل نظام الأسد نجلكم أسامة، ومن ثمَّ قام باعتقالكم في 6/2012م، ما خلفية الاعتقال؟ وكيف كانت مدَّة اعتقالكم؟
"
التهمة كانت التحريض من خلال خطبي ونشاطي على الفيس بوك وحضوري مظاهرات وتشييع شهداء الثورة
"
د. أحمد شميس: اعتقل النظام الأسدي في شهر تشرين الثاني عام 1911 ابني محمد عمر الأوسط لفترة 20 يوما لاشتراكه بمظاهرة ثم في 16 / 6 / 2012 اعتقلت أنا ثمَّ في اليوم التالي اعتقل ابني اسامة وبقيت أنا وابني معتقلين في الفرع الأمني لمدَّة 53 يوماً قاسينا فيها الشدائد، ولكن الله كان معنا، في الفترة الأولى كنت في زنزانة ضيّقة مع عدّة شباب ثمَّ نقلنا الى مهجع فيه 64 موقوفاً من خيرة الشباب ومساحته 3 أمتار ب 5 أمتار، فكان عدَّة شباب يتناوبون في الوقوف لا يجدون لهم مكاناً للجلوس، ولكن صلتنا بالله كانت كبيرة ولا تشكل مدَّة اعتقالي أي شيء أمام من اعتقل في تدمر 24 عاماً ، ثمَّ حوّلنا إلى محكمة عسكرية خرج ابني في اليوم التالي وأنا حوّلت من الفرع الأمني إلى سجن عدرا، فبقيت أسبوعاً ثمَّ خرجت إخلاء سبيل منتظراً محاكمتي والتهمة كانت التحريض من خلال خطبي ونشاطي على الفيس بوك وحضوري مظاهرات وتشييع شهداء الثورة، وقد حقّقوا معي عدَّة مرَّات لفترات يستمر فيها التحقيق 4 ساعات وأنا واقف على قدمي و مغطاة عيوني مربوطة بسلك يداي إلى وراء ظهري وكانت تحقيقهم يدور حول مضمون عدَّة خطب قمت بإلقائها إبَّان الثورة؛ أذكر منها خطبة أزعجتهم جدّاً؛ و هي الخطبة التي تلت مجزرة الحولة وقتها قلت فيها : إذا كانت الدولة عاجزة عن وقف مسلسل القتل، فعلى وزير الداخلية أن يقدِّم استقالته، وعلى رئيس الوزراء أن يقدّم استقالته وعلى رئيس مجلس الشعب أن يقدِّم استقالته ويجلسون في بيوتهم. وسألوني عن مظاهرات حضرتها وكنت بفضل الله قد شاركت بأول مظاهرة خرجت من حيّ الحريقة وأوّل من أطلق نداء (الشعب السوري ما بينذل) وكنت بمعية الاخ الشيخ معاذ الخطيب بتلك المظاهرة وقمت بتصوريها وبثها على اليوتيوب، وكانت تلك أول مظاهرة تصوَّر، اسأل الله أن يكون كل ذلك في سبيل الله.
بصائر: برأيكم، هل كان لعلماء سورية دور في انطلاقة الثورة؟ كيف كان هذا الدور؟ ولماذا لا يزال كثير من المشايخ في صفّ النظام وبعد مرور عامين على الثورة؟
"
بعض علماء دمشق الكبار وجدوا أنفسهم في قلب الثورة عندما كانت تخرج المظاهرات من مساجدهم، فلم يكن يدعم تلك المظاهرات إلاَّ الشيخ محمد كريم راجح والشيخ أسامة الرفاعي فقط
"
د. أحمد شميس: بالنسبة لبعض علماء دمشق الكبار وجدوا أنفسهم في قلب الثورة عندما كانت تخرج المظاهرات من مساجدهم، فلم يكن يدعم تلك المظاهرات إلاَّ الشيخ محمد كريم راجح والشيخ أسامة الرفاعي فقط أما الباقي، فمنهم من سكت على مَضض ومنهم من صار يخبئ خلف المنبر ومنهم من سافر وهرب من البلاد، وقام جيل الخطباء من الصف الثاني بدعم الثورة واعتقل منهم من اعتقل، ويمكنكم قراءة أسمائهم من خلال النشرة الأمنية التي سرِّبت من فروع الأمن، وقد قاموا بعزلهم من منابرهم، والذي يحزن أنَّ جماعة جمعية الفتح الإسلامي كانت تقوم بوضع خطباء غيرهم ليسوا على كفاءة، والأولى أن تبقى هذه المنابر فارغة، فإن ذلك يشكل معاناة للنظام، ولكن استغل أولئك هذا الوضع وعيَّنوا من يلوذ بهم، و لم يبق مع النظام إلاّ شيخ مغموس عليه بالنفاق أو خطيب خائف جبان ليس له أيّ اعتبار ، أو آخر تهمه مصلحته الشخصية.
بصائر: ما الأسباب الحقيقية لعدم نجاح الثورة السورية في تحقيق أهدافها إلى اليوم؟ برأيك ما هي مكامن الأخطاء فيها وأبرز مجالات نجاحها؟
"
إن ضاعت هذه الدّماء فإنّها ستضيع بسبب شيخ يخاف على منبره أو تاجر يخاف على متجره
"
د. أحمد شميس: تأخر وتخاذل بعض أصحاب الفعاليات عن دعمها والسير في ركابها حتى حصل ما حصل، و قد كنت أردِّد خلال بداية الثورة من على منبري كلمة وهي: إن ضاعت هذه الدّماء فإنّها ستضيع بسبب شيخ يخاف على منبره أو تاجر يخاف على متجره .. نعم، الناس كانوا ينتظرون قائداً لهم من العلماء ولكن لم يجدوا، وكذلك تجار دمشق خاصة، وكأنَّ الأمر لا يعنيهم كان همهم جمع الدرهم والدينار، وقد ساعدهم بعض العلماء على ذلك، فعندما تعرَّض الشيخ أسامة الرفاعي على اعتداء طلبت من أحد العلماء أن ننهض، ونقوم بالإضراب، وأن ندعو إلى عصيان مدني، فقال لي: حرام، نحن في أيام عيد الفطر، فلا نريد أن نكون سبباً بخسارة التجار، فقلت له: وهل ثوب قماش أو قطعة ملابس أغلى عندهم من دم طفل شهيد؟ ترى لو كان الذي اعتدي عليه كاهن أو قس او شيخ شيعي ما الذي كان يحصل من أتباعه .. نعم كان للثورة أن تنجح من يوم اعتدي على الشيخ لو هبَّت دمشق هبَّة واحدة تدافع عنه، فالشيخ دمه غال جداً، ولكنَّ تقاعس أكثر من حوله من تجار و حاشية وجبنوا نعم جبنوا .. وقد قلت للشيخ في اليوم التالي: يا سيدي، أطرد كل من حولك، والله إنّهم أنصاف رجال!
بصائر: شاركتم في القاهرة منذ أشهر في مؤتمر الهيئة السورية للتربية والتعليم (عِلم)، ما أهدافها؟ وما تقييمكم لعملها؟ وما آخر مشاريعها؟
د. أحمد شميس: دُعيت إلى المؤتمر من قبل أخت كريمة عضو في الهيئة العامة، وهالني ما أنفق على المؤتمر من أموال بلا سبب فقد دعي الكثير من خارج مصر وكلف حضورهم مبالغ طائلة وما قدَّموا أيَّ شيء يذكر دعي العشرات وحضروا حفل الافتتاح، بينما في ورشات العمل في اليوم التالي لم يحضر سوى عدد قليل جداً. واحد ممَّن دعوهم لم يشارك إلا بخمس دقائق بحفل الافتتاح كنوع من الترف لا يقدّم ولا يؤخر كلف حضوره ثمن 10000 ربطة خبز يحتاج لها جائعون في الداخل ـ وجمعوا أموالاً وكأنهم يعلمون أنَّ أمد الثورة سيطول، والأولى أن يجمع المال للسلاح فهو الأهم الآن، فلذلك لم أتابع أعمالهم لأنّي غير مقتنع بهم..
بصائر: ما نظرتكم لمستقبل الثورة السورية؟ هل يمكن يستطيع النظام الأسدي وحلفاؤه من وأدها؟ وبالمقابل هل تستطيع المعارضة السورية من الإطاحة به؟ وما حجم الدور الذي يلعبه العلماء في إسقاط النظام؟
"
لا يكن إمامكم في الصف ما لم يكن أمامكم في الصَّف، قليل من العلماء من يعمل بصمت، وهذا غلط يجب عليه أن يعمل علانية حتى يدفع غيره وتعلو همَّة المجاهدين
"
د. أحمد شميس: هذا الأمر لا يعلمه إلاَّ الله، فقد تحوّلت الثورة إلى حرب إقليمية وطائفية، والكل متآمر علينا إلا ما ندر. ولن يستطيع النظام ولا أتباعه قمعها، فهي ماضية في سبيل الله وقد يطول أمدها وعلى أهل المعارضة في الداخل والخارج أن يكونوا متضامنين متكاتفين مخلصين غير أنانيين، وعلى العلماء الكبار أن يعلنوا الجهاد وأن يكونوا أول من يتقدّم الصفوف لأنَّه عامل كبير في شحذ الهمم، وقد قال مرَّة الشيخ عبد الحميد بن باديس: لا يكن إمامكم في الصف ما لم يكن أمامكم في الصَّف، قليل من العلماء من يعمل بصمت، وهذا غلط يجب عليه أن يعمل علانية حتى يدفع غيره وتعلو همَّة المجاهدين حين يرونه معهم وبعضهم لا يعرف حجمه وقيمة نفسه فسكت وقليل من توجه الى اعمال أخرى يستطيع غيره أن يقوم بها وأقولها بصراحة: كان وما زال بعض علماء المحافظات الأخرى أكثر وعياً ونشاطاً وجهاداً من علماء دمشق.
بصائر: رمضان على الأبواب، هل من كلمة توجّهونها عبر (بصائر) إلى الأمَّة الإسلامية وواجبها نحو الشعب السوري وثورته؟
"
رمضان شهر القوة والعزَّة والمنعة، فعلى الأمَّة الإسلامية أن تستلهم من رمضان انتصارات بدر والفتح وعين جالوت
"
د. أحمد شميس: رمضان شهر القوة والعزَّة والمنعة، فعلى الأمَّة الإسلامية أن تستلهم من رمضان انتصارات بدر والفتح وعين جالوت، وأن تدرك أن معركتنا قد وضحت وضوح الشمس بعد أن كشّر أعداء السنة عن أنيابهم أنّها أصبحت بين السنة والشيعة، وأنَّ الخطر بدأ يداهمهم وأنَّ إيران أصبحت على أبوابهم وعليهم أن يعلموا أنَّ إيران الصفوهودية وأتباعها ما كان لهم أن يدخلوا سورية لو لم تأذن لهم أمريكا وأوروبا، فالكل متآمر على أهل السنة، ومن يشك في ذلك فهو إمَّا نائم أو أحمق أو متآمر، وكما قال الشاعر يوماً:
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب ... فقد طمى الخطب حتّى غاصت الركب.
والشكر لكم، بارك الله بكم، والحمد لله ربِّ العالمين.
بصائر: جزاكم الله خيراً ونفع بكم دكتور أحمد حفظكم الله.
د. أحمد شميس: وجزاكم الله أنت خيراً، والشكر لكم وبارك الله بكم، والحمد لله رب العالمين.