وضع المولى سبحانه قوانينَ وسنناً في هذا الكون وأخبرنا بأنَّها ثابتة راسخة لا تتغيّر ولا تتبدّل، فقال سبحانه: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}. (فاطر:43). وهذه القوانين والسنن الإلهية نافذة في حركة المجتمع وحركة الكون وحركة الطبيعة، ولا تحابي ولا تجامل أحداً سواء كان مؤمناً أو كافراً، وعليه فقد أرشدنا القرآن الكريم إلى دراسة هذه السنن والاعتبار بها، فقال عزّ وجل: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ}.(آل عمران:137).
ومن السنن الإلهية الماضية إلى يوم الدين التي تحدّث عنها القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}. (يوسف:52). ذلك أنَّ كلَّ خائن لا بد أن تعود خيانته ومكره على نفسه، ولا بد أن يتبيَّن أمره، فهذا قانون إلهي؛ فصاحب الخيانة لن يستطيع أن يحقّق أهدافه بهذا الفعل الشائن وسيفتضح أمره إن عاجلاً أم آجلاً، لتعطي هذه السنّة الرّبانية للمؤمن يقيناً بنصر الله وتأييده في سيره نحو تحقيق خلافة الله في الأرض وتمكين دين الله، فمهما طغى الظالمون وكَبُر كيدهم، فإنَّ إرادة الله أقوى من كلّ ذلك إذا صبرت الفئة المؤمنة وثبتت على الحق.
"
كلَّ خائن لا بد أن تعود خيانته ومكره على نفسه، ولا بد أن يتبيَّن أمره، فهذا قانون إلهي؛ فصاحب الخيانة لن يستطيع أن يحقّق أهدافه بهذا الفعل الشائن وسيفتضح أمره إن عاجلاً أم آجلاً
"
فما كيدُ الخائنين؟
الكيد في اللغة هو إيقاع المكروه بالغير على وجه المكر والخديعة، وهو مذموم في غالب أحواله، ولا يكون ممدوحاً إلاّ إذا كان في باب المقابلة، وإن كان يستعمل في المذموم أكثر، ويأتي الكيد في اللغة على عدّة معان منها: الحيلة، والخديعة، والحرب، والمخاتلة، والمكر، والاستدراج، وإرادة السوء بالغير، ويكون بعض ذلك محموداً، قال تعالى: {كذلك كدنا ليوسف} (يوسف:76) وقوله: {وأملي لهم إن كيدي متين}. (الأعراف:183) عن ابن عباس: كيد الله العذاب والنقمة. وقوله: {وأنَّ الله لا يهدي كيد الخائنين} (يوسف:52) فخصَّ الخائنين تنبيهاً أنَّه قد يهدي كيد من لم يقصد بكيده خيانة، ككيد يوسف بأخيه، وقوله: {لأكيدن أصنامكم} (الأنبياء:57) أي: لأريدن بها سوءاً. وقال: {فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين}. (الصافات:98) وقوله: {فإن كان لكم فكيدون}. (المرسلات:39)، وقال: {كيد ساحر} (طه:69)، {فأجمعوا كيدكم}. (طه:64).
أمَّا الخيانة، فقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً}. (النساء:107). قال الطبري في تفسيره: (يقول: إنَّ الله لا يحب من كان من صفته خيانة الناس في أموالهم، وركوب الإثم في ذلك وغيره مما حرمه الله عليه). وقال القرطبي في الجامع: (روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية إلى قوله: {كَفُورٍ}، فوعد فيها سبحانه بالمدافعة، ونهى أفصحَ نهي عن الخيانة والغدر. وقد مضى في الأنفال التشديد في الغدر، وأنه ينصب للغادر لواء عند استه بقدر غدرته يقال: هذه غدرة فلان).
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستعيذ من الخيانة، فعن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إنّي أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة؛ فإنها بئست البطانة)). (أبوداود والنسائي وابن ماجه).
قال المُناوي في فيض القدير: ((فإنها بئست البِطانة)) بالكسر، أي: بئس الشيء الذي يستبطنه من أمره ويجعله بطانة. قال في المغرب: بطانة الرّجل أهله وخاصته مستعار من بطانة الثوب. وقال القاضي: البطانة أصلها في الثوب فاستعيرت لما يستبطن الرجل من أمره ويجعله بطانة حاله. والخيانة تكون في المال والنفس والعداد والكيل والوزن والزرع، وغير ذلك).
الخيانة غدرٌ
في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعط أجره)). وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكلّ غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان)). (صحيح البخاري). وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكلّ غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة)). (صحيح مسلم).
"
مهما حاول الخائنون تنفيذ وتمرير خيانتهم ومهما حشدوا لها من كيد سياسي وإعلامي وضخّ بالمال والقوّة والتخويف فلن يفلحوا، لأنَّ سنّة الله ماضية إلى يوم الدين أنَّ الله لا يهدي كيد الخائنين
"
قال النووي في شرح صحيح مسلم: (معنى: ((لكل غادر لواء)) أي: علامة يشهَر بها في الناس؛ لأنَّ موضوع اللواء الشهرة. وفي هذه الأحاديث بيان غلظ تحريم الغدر، لا سيّما من صاحب الولاية العامة؛ لأنّ غدره يتعدّى ضرره إلى خلق كثيرين. وقيل: لأنّه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء).
إعلام الخائنين
يجنّد الخائنون عبر التاريخ الدعاية والأقلام والشعراء والكتّاب لتزيين خيانتهم وتصويرها بأنها عمل صالح وتغيير إيجابي في محاولة منهم لتضليل الرّأي العام وتمييع الحقائق لدى السذج من النّاس وأصحاب القلوب الضعيفة والحاقدين على المشروع الإسلامي، لذلك جاء التوجيه القرآني للنهي عن مناصرة أهل الخيانة في خيانتهم وباطلهم فقال سبحانه: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً}. قال الشوكاني في فتح القدير: (أي: لأجل الخائنين خصيماً: أي مخاصماً عنهم مجادلاً للمحقين بسببهم، وفيه دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلاّ بعد أن يعلم أنه محق). فكلُّ مَن يسخّر قلمه وفكره وإعلامه في الدفاع عن الخائنين يعدُّ واحداً منهم وأحد أدواتهم في تثبيت حكم الخائنين وتلميع جريمتهم.
لا يهدي كيدَهم
أضاف الله سبحانه صفة "الكيد" إلى الخائنين، وتحمل هذه الصفة مجموعة من الأفعال تندرج تحتها أساليب الخداع والاحتيال والفبركة وهذه الأساليب تحتاج إلى حشد إعلامي وضخ بالأموال، لكنَّ سنّة الله غالبة وماضية في أنَّهم {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ}. وسيفضح كيدهم وتضليلهم ودفاعهم عن الخائنين {وأنَّ الله لا يهدي كيد الخائنين}. فمهما حاول الخائنون تنفيذ وتمرير خيانتهم ومهما حشدوا لها من كيد سياسي وإعلامي وضخّ بالمال والقوّة والتخويف فلن يفلحوا، لأنَّ سنّة الله ماضية إلى يوم الدين أنَّ الله لا يهدي كيد الخائنين، فليثبت المؤمنون وليصبروا وليرابطوا دفاعاً عن حقوقهم المشروعة فالله معهم ولن يترهم أعمالهم.