في كثير من الأحيان، حينما يحتدم الصراع بين طرفين، يفضل البعض البقاء على الحياد، بعيداً عن اتخاذ المواقف وتأييد أحد الأطراف، بحجة أن الحياد أسلم، وأنه الحل الآمن للخروج من التعصب لهذا الطرف أو ذاك. دون النظر إلى طبيعة الخلاف، وماهية الأطراف المتنازعة، ودون البحث في مدى وقوع الظلم على أحد الأطراف، أو وقوف الحق مع أحدهما دون الآخر.
منهج يستخدمه الكثير ممن يريدون أن يبتعدوا عن تحمل مشاق الوقوف مع الحق، والصبر على ما يتبعه من عداء مع الظالم، أو الأذى الذي سيلحقه. أو ممن يريد أن يصف نفسه بالحيادية والوعي والترفع عن الخلاف المقيت، مما يجعله كمن يمسك العصا من المنتصف، بل ربما يكون دوره مخذلاً عن الوقوف مع الحق وأهله.
الحياد .. وتجنب الفتنة
ليس الحياد بأمر سلبي أو إيجابي بحت، بل قد يكون الحياد مطلوباً في أمور، ومرفوضاُ في حالات عدة، وهذا يتحدد بناء على الحالات والظروف والمواقف.
إلا أن البعض يصرّون على جعل الحياد أسلوب حياة، تحت ذريعة البعد عن الفتنة، واعتزالها، واعتماداً على نصوص نبوية كثيرة، نورد منها:
- قوله صلى الله عليه وسلم : ((ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن يشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به)) (رواه الشيخان).
- وقول النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان حينما سأله ماذا يفعل في الفتنة، ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : " فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) (رواه الشيخان).
- وحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفتنة : ((كسروا فيها قسيكم وقطعوا فيها أوتاركم، والزموا فيها أجواف بيوتكم، وكونوا كابن آدم)) (رواه الترمذي).
لكن مما يجدر التنبيه إليه، إلى أنه ليس كل خلاف بين الناس فتنة، وليس كل صراع بين الحق والباطل هو من الفتنة التي يجب اعتزالها.
بل إن تحميل أي حدث على هذه النصوص، يعبر عن مشكلة في الفهم وعدم اعتبار لمراد النص.
وتكمن المشكلة في تجاهل أولئك للنصوص الشرعية، المليئة بالشواهد التي تدعوا إلى الوقوف مع الحق، ونصرة المظلوم، ورد العدوان، ودفع باطل المعتدي.
ففي الصراع بين الحق والباطل، أو بين الظالم والمظلوم، لا يعتبر الحياد موقفاً إيجابياً البتة، بل إنه يعتبر ضمن الوقوف مع الباطل؛ لأنه يخذل الآخرين عن الوقوف مع الحق وتأييده.
ويعلمنا القرآن الكريم، أن الوقوف على الحياد بين الحق والباطل، والإمساك بمنتصف العصا في الصراع بينهم، صفة المنافقين، كما جاء في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ} [النساء: 141]. وقوله تعالى : {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء: 143]."
في الصراع بين الحق والباطل، أو بين الظالم والمظلوم، لا يعتبر الحياد موقفاً إيجابياً البتة، بل إنه يعتبر ضمن الوقوف مع الباطل؛ لأنه يخذل الآخرين عن الوقوف مع الحق وتأييده.
"
بل إن الوقوف على الحياد والمساواة بين الحق والباطل، خصوصاً في القضايا الخطيرة التي تمس الأمة، مخالف لقواعد الإسلام، التي تميز بين الصالح والسيء، وبين الظالم والمظلوم، وبين المؤمن وغيره. قال تعالى : {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، سواء محياهم ومماتهم، ساء ما يحكمون} [الجاثية: 21]
لذا ليس من العيب أن نقول للمحسن أحسنت، ونقف معه، ونقول للمسيء أسأت ونقف ضده ونردعه عن ظلمه.
وبناء على ما سبق، كان لسلف الأمة تمييز واضح بين الفتنة المطلوب اعتزالها، وبين الصراع المطلوب الوقوف فيه مع أهل الحق والعدل.
فهذا حذيفة بن اليمان، وهو راوي كثير من أحاديث الفتن، يقول : "لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك، إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل".
أما الإمام الطبري، فبين متى تجوز المشاركة والاعتزال، فقال : "متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزاباً فلا يتبع أحداً في الفرقة ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر، ومتى وجد جماعة مستقيمة على الحق لزمه الانضمام إليها وتكثير سوادها والتعاون معها على الحق لأنها والحال ما ذكر هي جماعة المسلمين بالنسبة إلى ذلك الرجل وذلك المكان".
بين الفتنة ونصرة الحق
سبق وأن بينا أن الحياد وعدم نصرة الحق هو نوع من أنواع مناصرة الباطل والوقوف معه؛ لأنه يضعف الحق، وينفر البعض عن نصرته، مما يقوي الباطل ويزيد في ظلمه وعدوانه. ويتجلى هذا الامر، ما يحدث في ساحات وميادين أمتنا، في فلسطين، وسوريا، ومصر وغيرها.
فمصر على سبيل المثال، تشهد كارثة حقيقية، ومؤامرة دولية، ومصادرة للحقوق التي انتزعتها من استبداد استمر عقوداً طويلة، بعد الانقلاب على الشرعية، وعزل الرئيس محمد مرسي، وتعطيل الدستور المستفتى عليه. "
ما يجري في مصر حالياً منكر وظلم وعدوان لا خلاف فيه، ولا نزاع حوله، وإن رفض ما يجري من انقلاب على الشرعية وعلى إرادة الشعوب واجب شرعاً، والحياد فيه أمر مرفوض.
"
وهذا منكر وظلم وعدوان لا خلاف فيه، ولا نزاع حوله، لكن تكمن المشكلة في أولئك الذين يصرّون على تقليب الحقائق، وتغيير المفاهيم، باعتزال نصرة أولئك الذين خرجوا إلى الشوارع والميادين رفضاً للانقلاب، ومصادرة إرادة الشعوب وحقوقها.
إن رفض المنكر والوقوف في وجه أمر واجب بلا شك، ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم. وإن المنكرات تزداد خطورة، إذا كانت تستهدف فئة أكبر من الناس، فكيف إذا كانت تمس أكثر من ثمانين مليون شخص! بل تستهدف الأمة العربية والإسلامية بأسرها!!!
إن الواجب على كل شخص، أن يلتزم بتلك النصوص الكثيرة التي تدعوا إلى رفض الظلم والمنكر، ونصرة أهل الحق، الرافضين لكل صور مصادرة الحقوق، وإزهاق الأرواح، واعتقال الأحرار، وإلا كان مناصراً لأولئك الذين تجبروا، واستخدموا قوتهم للانقلاب على إرادة الشعوب، ومبادئها وبرامجها ورؤاها. وبالتالي كان مستحقاً لعذاب الله وسخطه، قال صلى الله عليه وسلم : " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" رواه أبو داود والترمذي وأحمد.