من الصَّحابة الكرام رضوان الله عليهم الذين اشتهروا بكُناهم (أبو الدرداء) رضي الله عنه، أما اسمه فهو عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي حكيم هذه الأمَّة وسيد القراء بدمشق، فقد روي عن أنس رضي الله عنه: مات النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبي الدرداء، ومعاذ، وزيد بن ثابت، وأبي زيد. وكان مجلس أبي الدرداء يمتلئ بطالبي العلم حيث كان يقوم بتحفيظ القرآن وتفسير معانيه؛ فعن سعيد بن عبد العزيز عن مسلم بن مشكم: قال لي أبي الدرداء: اعدد من في مجلسنا، فعددتهم فإذا هم ألف وستمائة ونيف، فكانوا يقرؤون ويتسابقون عشرة عشرة، فإذا صلّى الصبح، وقرأ جزءاً، يلتفون حوله يسمعون ألفاظه.
هكذا كانت أحوال الصحابي الجليل أبي الدرداء خارج منزله، أما داخله فنحاول عن نسبر أغواره من خلال هذه الأسطر، فقد كان لأبي الدرداء زوجتان هما أم الدرداء الكبرى وأم الدرداء الصغرى، حيث كانت تعيش أسرة أبي الدرداء في جو مفعم بالتقوى والورع والصلاح والعلم.
أم الدرداء الكبرى ..
أم الدرداء الكبرى ي الصحابية خيرة بنت أبي حدرد الأسلمي، التي أسلمت وحسن إسلامها، وكانت من فضليات النساء وعاقلاتهن، وذوات الرأي منهن، مع العبادة والنسك. وقد حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن زوجها أبي الدرداء وقد روت خمسة أحاديث. ومن تلاميذها الذين حملوا العلم عنها: صفوان بن عبد الله بن صفوان، وميمون بن مهران، وزيد بن أسلم. وقد توفيت أم الدرداء الكبرى قبل أبي الدرداء بسنتين، وذلك في الشام في خلافة عثمان بن عفان. ولم يذكر كتاب السير والتراجم عن أم الدرداء الكبرى كثيراً من الأخبار في ترجمتها.
"
حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن زوجها أبي الدرداء وقد روت خمسة أحاديث
"
يروي سهل بن معاذ عن أبيه عن أم الدرداء أنه سمعها تقول: لقيني رسول الله وقد خرجت من الحمام فقال: "من أين يا أم الدرداء؟" فقالت: من الحمام، فقال: "والذي نفسي بيده، ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها إلاّ وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرّحمن".
ويقول عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: آخى النبي بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا.
فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا فقال: كُلْ، قال: فإني صائم؛ قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا فقال له سلمان: "إنَّ لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي فذكر ذلك له، فقال النبي: ((صدق سلمان)).
وممّا روته أم الدرداء الكبرى عن النبي صلّى الله عليه وسلم: عن أم الدرداء عن النبي قال: ((ما من ميت يقرأ عنده سورة يس إلا هون عليه الموت)).
وعن أم الدرداء عن النبي قال: ((إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث: عن الخطأ والنسيان والاستكراه)).
أم الدَّرداء الصُّغرى
هي الزوجة الثانية لأبي الدرداء، واسمها هُجَيْمَةُ بِنْتُ حُيَيٍّ الوصَّابِيَّة، وقيل: جُهَيْمَةُ، الأَوْصَابِيَّةُ، الحمْيَرِيَّة الدِّمشقِيَّة السّيّدة العالمة الفقيهة
"
حدّثت عن زوجها أبي الدرداء بوقار واحترام وحب شديد كـ (حدثني سيّدي أبو الدرداء، وأوصاني حبيبي أبو الدرداء، فكانت تقول: (حدثني سيدي).
"
وروت أم الدرداء الصغرى علماً جمّاً عن زوجها أبي الدرداء، وعن سلمان الفارسي، وكعب بن عاصم الأشعري، وعائشة، وأبي هريرة. وأحاديثها مثبتة في كتب الأصول الستة. وكانت أم الدرداء الصغرى فقيهة زاهدة عابدة، تقول: إنَّ أحدهم يقول: اللهمَّ ارزقني، وقد علم أنَّ الله لا يمطر عليه ذهباً، ولا دراهماً، وإنما يرزق بعضهم من بعض، فمن أعطي شيئا فليقبل، فإن كان غنيا فليضعه في ذي الحاجة، وإن كان فقيراً فليستعن به.
وكان أبو الدرداء وأم الدرداء الصغرى متحابين، يقومان الليل معاً، ويقرآن القرآن ويتعبدان، حتّى إنَّ أم الدرداء الصغرى كانت تدعو لله قائلة: اللهم إنَّ أبا الدرداء خطبني فتزوجني في الدنيا، اللهم فأنا أخطبه إليك، فأسألك أن تزوجنيه في الجنة. فقال لها أبو الدرداء: فإن أردت ذلك فكنت أنا الأول فلا تتزوجي بعدي. فمات أبو الدرداء وكانت ذات جمال وحسن، فخطبها معاوية، فقالت لا والله لا أتزوج زوجاً في الدنيا حتى أتزوج أبا الدَّرداء إن شاء الله في الجنة.
وحدّثت عن زوجها أبي الدرداء بوقار واحترام وحب شديد كـ (حدثني سيّدي أبو الدرداء، وأوصاني حبيبي أبو الدرداء، فكانت تقول: (حدثني سيدي)، مثال ذلك قولها: حدثَنِي سيِّدي أَبو الدَّرْدَاء، أنّه سَمِعَ رَسُول اللَّهِ، يقول: ((إذا دعا الرجلُ لأَخيهِ بظهرِ الغَيْبِ، قالت الملائكةُ: آمين، ولكَ بِمِثْل)). وكانت تقول: (أوصاني حبيبي أبو الدَّرداء قال اذا لبس الناس الكتان فالبس القطن واذا لبس الناس القطن فالبسي الصوف).
وكانت أم الدرداء إحدى عابدات الشَّام التي كان لها السبق في العبادة والصلاح حتى قصدها الناس يتعلمون منها رقة القلب وخشوع الجوارح عند ذكر الله وقراءة القرآن.
"
وعندما احتضر أبو الدرداء قالت له: إنك خطبتني إلى أبويّ في الدنيا فزوجوك لي، وأنا أخطبك إلى نفسك في الآخرة.
"
وكان الرجال يقرؤون عليها ويتفقهون في الحائط الشمالي بجامع دمشق، وكان عبد الملك بن مروان يجلس في حلقتها مع المتفقهة يشتغل عليها وهو خليفة، رضي الله عنها.
وكانت رضي الله عنها من الناسكات المتعبدات الفقيهات، تقول أم الدرداء الصغرى: (لقد طلبت العبادة في كل شيء، فما أصبت لنفسي شيئا أشفى من مجالسة العلماء ومذاكرتهم. تعلموا الحكمة صغاراً، تعملوا بها كباراً. إن كل زارع حاصد ما زرع من خير أو شر).
وعندما احتضر أبو الدرداء قالت له: إنك خطبتني إلى أبويّ في الدنيا فزوجوك لي، وأنا أخطبك إلى نفسك في الآخرة.
وقالت: (إن صليت فهو من ذكر الله، وإن صمت فهو من ذكر الله، وكل خير تعمله فهو من ذكر الله، وكل شيء تجتنبه فهو من ذكر الله، وأفضل ذلك تسبيح الله عز وجل).
وقال رجل لأم الدرداء: إني لأجد في قلبي داء، لا أجد له دواء! وأجد قسوة شديدة وأملا بعيداً! فقالت أم الدرداء: اطلع في القبور، واشهد الموتى.
ويقول عثمان بن حبان: أكلنا مع أم الدرداء طعاماً فأغفلنا الحمد لله فقالت: يا بني، لا تدعوا أن تأدموا طعامكم بذكر الله، أكلاً وحمداً خير من أكل وصمت.
قال ابنُ حبَّان في "الثقات": كانت تقيم ستة أشهر ببيت المقدس، وستة أشهر بدمشق، وماتت بعد سنة إحدى وثمانين.