ها هو شهر رمضان الفضيل قد انقضت أيامه ورحلت عنّا لياليه المباركات التي كانت مليئة بروح العبادة والارتقاء مفعمة بالإنابة والرُّجوع إلى الله سبحانه .. مضت تلك الأيام والليالي وما حملته من جهد وسعي متواصل في الطاعات والقُربات، فهل ينقطع ذلك السعي وهل يمضي ذلك الجهد بعد انقضاء شهر رمضان؟
إنَّ التوجيه الرَّباني يدعونا إلى صلة الأعمال وربطها ومواصلتها وعدم الانقطاع فيها، فيقول المولى تبارك وتعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}. (الشرح:7-8). قال الطاهر ابن عاشور في تفسيره ((التحرير والتنوير)): (وهذه الآية من جوامع الكلم القرآنية لما احتوت عليه من كثرة المعاني).
معانٍ وإرشادات
قال مجاهد بن جبر التابعي الكبير في هذه الآية: (إِذَا فَرَغْت مِنْ أَمْر الدُّنْيَا فَقُمْت إِلَى الصَّلَاة فَانْصَبْ لِرَبِّك)، وفي رواية عنه: (إِذَا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فَانْصَبْ فِي حَاجَتك). وعن الصحابي عبد الله بن مسعود: (إِذَا فَرَغْت مِنْ الْفَرَائِض فَانْصَبْ فِي قِيَام اللَّيْل). وفي رواية عن ابن مسعود: {فَانْصَبْ وَإِلَى رَبّك فَارْغَبْ} بَعْد فَرَاغك مِنْ الصَّلَاة وَأَنْتَ جَالِس. وقال عليّ بن أَبي طَلْحَة عن ابن عَبَّاس: فَإِذَا فَرَغْت فَانْصَبْ يَعْنِي فِي الدُّعاء. وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَم وَالضَّحَّاك: " فَإِذَا فَرَغْت " أَيْ مِنْ الْجِهَاد " فَانْصَبْ " أَي في العبادة.
"
وبهذا كان حال السلف الصالح ونطقت أخبارهم، قال عبد الله بن مسعود:(إني لأمقت أن أرى الرجل فارغاً لا في عمل دنيا ولا آخرة).
"
فمن خلال هذه المعاني التي فهما السَّلف الصَّالح من هذه الآية الكريمة يظهر جلياً التوجيه الربّاني في أن يعيش المؤمنون العبودية لله في جميع أحوالهم؛ في السَّراء والضّراء، وفي الشدة والرَّخاء، وفي الحضر والسفر، وفي الضحك والبكاء، في المنشط والمكره، ليتمثلوا حقاً قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .(الأنعام: 162)، وأن يكونوا مقتدين بالثلة المباركة من أنبياء الله ورسله ـ الذين أثنى الله عليهم بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} .(الأنبياء: 90).
الواجبات أكثر من الأوقات
إنَّ ديننا الحنيف يكره أن يرى أتباعه دون عمل ونشاط وحركة، حيث جاء التوجيه القرآني للمؤمنين بالحركة الدؤوبة والسعي المتواصل في جميع المجالات الأخروية والدنيوية، وبهذا كان حال السلف الصالح ونطقت أخبارهم، قال عبد الله بن مسعود:(إني لأمقت أن أرى الرجل فارغاً لا في عمل دنيا ولا آخرة). ومهما تكن الأسباب فلا ينبغي للمؤمن أن يتهاون أو يتقاعس في إنجاز الأعمال والواجبات، لأنَّ الواجبات أكثر من الأوقات. قال بعضُ الصَّالحين: (كان الصدّيقون يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس)، علّق ابنُ رجب: على هذا فقال: (يشير إلى أنهم كانوا لا يرضون كل يوم إلاّ بالزيادة من عمل الخير، ويستحيون من فقد ذلك ويعدّونه خسراناً).