فرزت الممارسة السياسية المصرية نوعاً فريداً من الظواهر السياسية، التي تستحق بحق الوقوف أمامها طويلاً، وتكرار النظر فيها كثيراً. ولعل أبرز هذه الظواهر وأهمها وأكثرها انتشاراً هو ما يعرف بـ (الاستخراف) !!
نعم .. (الاستخراف) ! فلقد تعاملت (النُّخْبَةُ) المصرية مع الشعب المصري بسياسة (القطيع) الذي يسير دون تفكير أو تخطيط أو تحقيق أو تمييز .. وفق ما يُملي عليه من (نخبة) التي ينتمي إليها أو من أجهزة الإعلام التي غالباً ما تكون متحيزة إلى فئة دون فئة .. فالناس اليوم على دين إعلامهم!
لقد أوصلتنا هذه الظاهرة – الاستخراف – إلى وضع مضحك ومؤلم ومبك في ذات الوقت! وما كان مقبولاً بالأمس صار منكراً اليوم، وما كان منكراً بالأمس صار مقبولاً اليوم!
فبالأمس كان القرض القطري بمثابة (شحاتة) و(تسول) لا يليق بكرامة (مصر) و(المصريين) والرئيس مرسي يتسول لمصر في جولاته وزياراته الخارجية .. واليوم بعد الانقلاب العسكري أطلقت (الإمارات) حملة (رسمية) للشحاتة على مصر اسمها (مصر في قلوبنا)، ولا عزاء ولا نداء لأصحاب الكرامة المصرية!!
بالأمس أثارت طريقة استقبال الرئيس (مرسي) في القمة الإفريقية بأديس أبابا حفيظة الكثيرين؛ حيث تم استقبال الرئيس المصري بوفد ليس رفيع المستوى، ويوصف بأنه غير لائق لرئيس أكبر دولة في المنطقة، حيث استقبلته وزيرة التعدين الإثيوبية وهو استقبال غير لائق بمكانة مصر، واليوم حينما قامت (كاترين آشتون) الممثل السامي للاتحاد الأوروبي لشؤون السياسة الخارجية والأمن بمغادرة المؤتمر الصحفي مع د. البرادعي، نائب رئيس الجمهورية للشؤون الخارجية قبل انتهائه .. تاركة البرادعي في موقف محرج أمام كاميرات وعدسات الإعلام، ليشاهد الملايين إحراج نائب رئيس الجمهورية للشؤون الخارجية ..دون أن ينبس أحد ببنت شفة .. ولا عزاء لمكانة مصر الدولية!!
بالأمس كانت خفة الظل اللامتناهية في وصف الرئيس مرسي بأنه (الإستبن) الذي يتحكم فيه المرشد العام للإخوان. واليوم وجدنا خفة الظل قد تلاشت مع الرئيس المؤقت عدلي منصور (...)، الذي فوض كثيرًا من صلاحياته لكل من حوله، بينما يعكف الفريق (السيسي) على لقاء ممثلي الوفود الأجنبية! وبالطبع يفعل ذلك بصفته وزير الدفاع ونائب رئيس الوزراء !.. ولا عزاء للطراطير !!
بالأمس كان الحديث عن أخونة الوزارة – وبالمناسبة كان يردد في البداية أن وزيري الدفاع والداخلية إخوان من الخلايا النائمة! بسبب خمسة وزراء، في بداية الوزارة ثم زاد العدد مع التعديلين الوزاريين إلى عشرة وزراء، للإخوان في حكومة هشام قنديل، واليوم حينما عُين في حكومة الببلاوي سبع وزراء،كبداية وفي انتظار التعديلات، هذا إذا استمرت وزارة الانقلاب، منتمين إلى جبهة الإنقاذ .. لم نسمع عن (أنقذة) الوزارة ..خاصة بعد أن خلت الوزارة تماماً من الإسلاميين .. بل وضمت بعض فلول نظام مبارك .. ولا عزاء للمنافقين!
بالأمس كان الحديث عن تمكين الشباب وأن نظام الرئيس مرسي لم يعط الفرصة للشباب .. واليوم في حكومة د. حازم الببلاوي صاحب السبع والسبعين ربيعًا! تتراوح أعمار خمسة عشر وزيرًا بحكومة الببلاوي الانتقالية الذين تم اختيارهم ما بين الستين والسبعين عاماً ! ويوجد أيضاً ستة وزراء تتراوح أعمارهم بين الخمسين و التسعة والخمسين عامًا .. ويأتي أصغر الوزراء سناً – آخر العنقود - طاهر أبو زيد (واحد وخمسون) عاماً ... ولا عزاء لانتصار الشباب!
بالأمس كانت الاعتصامات الفئوية والمظاهرات والاحتجاجات اليومية في عهد الرئيس مرسي بمثابة (الحالة الثورية)، وكانت الماكينة الإعلامية خلفها تردد (لا مساس بحرية التعبير)، واليوم صارت الاعتصامات والمظاهرات في رابعة العدوية والنهضة وغيرها بمثابة تهديد للأمن القومي! والأنكى والأمر أنه بينما يبحث الانقلابيون عن وسيلة لفض الاعتصام بفتح المجاري على ميدان رابعة أو حتى بإغراقهم أو حتى قتلهم .. بحجة أن الاعتصام برابعة العدوية يعرقل سير العمل .. نجد أن ميدان التحرير مغلق ومحاط بأسلاك شائكة حتى لا (يحتله) الإخوان! وبالطبع هذا لا يعطل المرور أو سير العمل .. وكله بما يرضي الله!!
بالأمس ثار الشعب على العسكر وهتفنا جميعًا (يسقط يسقط حكم العسكر)، وغنينا بأعلى صوتنا ( أيا مجلس يا ابن ... بعت دم شهيد بكام)، وقبل أمس ثار الشعب على ارهاب وبلطجة الشرطة.. واليوم صار الشعب والجيش والشرطة إيد واحدة!! والذي قتل المتظاهرين هم الإسلاميون .. ومن فتح السجون هم الإسلاميون ..ومن قتل الجنود بسيناء هم الإسلاميون .. ومن أكل الجبنة هم الإسلاميون !!!
بالأمس كان الدستور المستفتى عليه من الشعب .. دستور باطل ومزور؟ مع ملاحظة.. أن الذي تولى تأمين الاستفتاء هما الجيش والشرطة .. والذي تولى عملية فرز النتائج هو القضاء الشامخ! .. واليوم تعكف لجنة معينة على تعديل الدستور أو حتى إلغائه .. ولا تسأل عن أعضاء اللجنة، ولا عن كيفية اختيارهم؟ وهل اختيارهم يضمن التمثيل العادل لشرائح وطوائف المجتمع .. وما هي المواد التي ستعدل؟ ومن الذي حدد هذه المواد – بخلاف المواد التي حددتها الكنيسة بالطبع؟ ومن أعطاكم الحق للجور على الإرادة الشعبية؟ .. وكله بالديمقراطية!
اليوم لا أسمع صوت من كان ينادي بـ (الدستور أولاً) ولا من كان يتشدق بـ (حرية الرأي والإعلام) بعد غلق عدد من القنوات، بل واعتقال القائمين عليها! ولا أرى كهنة (حقوق الإنسان) ونشطاء (حقوق المرأة) ليشجبوا ويدينوا ويصرخوا بسبب ما تشهده مصر من إرهاب مشترك من الجيش والشرطة والبلطجية! .. أين حلقاتك (التاريخية) يا يسري فودة أنت ورفاقك ؟.. وكله إلا حرية الرأي والإعلام!!
بالأمس كان الضباط الملتحون يتظاهرون مطالبين بالسماح لهم بالعودة لعملهم بلحيتهم .. وأنهم يفضلون الموت جوعاً على حلق لحاهم والعودة لعملهم .. وكان بعض الشيوخ يقولون إن الرئيس مرسي خذل هؤلاء الضباط ومنهم من كان يُلّمح بأنه خذل الشريعة!! ..واليوم قام أربعة ضباط بحلق لحاهم والعودة إلي عملهم .. ولم نسمع لهم ولا لهؤلاء الشيوخ الأفاضل صوت .. وقالوا لنا: بأن الضرورات تبيح المحظورات .. وكله بالشريعة !!
بالأمس كانت الداخلية تناشد المواطنين (الشرفاء) بضرورة مغادرة ميدان رابعة العدوية وتضمن لهم سلامتهم .. واليوم لن تتوانى الشرطة أمام الإرهابيين المخطوفين ذهنياً المرابطين في رابعة .. وستتولى الشرطة علاجهم بأسلوبها ... وكله بالقانون!
بالأمس كان موظف الأزهر الأكبر يقول بأن المظاهرات ضد المجلس العسكري تجر البلاد الى الفتنة، ومن قبل المظاهرات ضد نظام مبارك غير جائزة .. واليوم في انقلاب يونيو ..النزول ضد الرئيس مرسي مستحب والتظاهرات هي مطالب شعبية .. بل ويجب النزول لمساندة الجيش والشرطة ومؤسسات الدولة ضد الإرهاب والقضاء .. وكله بسد الذرائع !!
ثم كانت الطفرة الهائلة في ظاهرة (الاستخراف) إلي ظاهرة (الاستحمار) على يد ثلة من الأفاضل .. فأحدهم ينصحنا بقراءة التاريخ، لنقرأ فيه أن الإخوان هم سبب سقوط الأندلس!! وآخر يخبرنا بأن ميدان رابعة العدوية يحتوي تحته كرة أرضية .. !! وكله بالأدلة والبراهين والوثائق !!!
وأخيراً وليس آخراً .. بالأمس كان لقب (الخروف) يطلقه البعض على أنصار التيار الإسلامي، ولكننا اليوم إذا دققنا النظر وأخلصنا النية لله، لوصلنا إلى حقيقة علمية هامة، وهي .. يا عزيزي كلنا خرفان!!!