لم يكن المشهد عادياً، حينما وقفت تلك الحشود الهائلة على مداخل رابعة العدوية، تستذكر صمود أبطالها على حدودها، وتتنسم عبق الشهداء الذين رووا أرضها، تقبل تلك الأرض الطاهرة التي احتضنتهم، وشهدت على عبادتهم، وثباتهم على مبادئهم، غير آبهين بشدة حر، أو مشقة صيام، أو تهديد واعتداء.
مشهد يعيد للذكريات صورة تلك الملايين المؤمنة، ذات الحشود الهائلة المترامية الأطراف، التي خرجت للحفاظ على حريتها، ورفض الظلم والاستبداد، والالتفاف على رأيهم واختيارهم، والذي ختم بمجزرة على الهواء مباشرة، راح ضحيتها الآلاف من الشهداء والجرحى، مع ما رافق ذلك من انتهاك لكل صور الإنسانية والمواثيق الدولية، من حرق للجثث والمساجد، ومنع الجرحى من تلقي العلاج، ناهيك عن إذلال الناس واعتقالهم دون أي وجه حق.
ظن خائب ..
"
أثبت الشعب المصري أن إرادته أقوى من كل آلات القتل، وأن دماء الشهداء لن تشكل إلا وقوداً لمواصلة المسير نحو إفشال الانقلاب، واستعادة الحريات، التي انتهكت على يد الانقلاب الغاشم.
"
لقد ظن قادة الانقلاب في مصر، أن المحرقة التي ارتكبوها في ميدان رابعة العدوية، وميدان النهضة، ستسكت الناس وترعبهم، وتجعلهم ينفضون عن جموعهم، ويتراجعون عن مطالبهم، خوفاً من آلة القتل، وحرصاً على حياتهم. إلا أن الشعب المصري الحي، أثبت أن إرادته أقوى من كل آلات القتل، وأن دماء الشهداء لن تشكل إلا وقوداً لمواصلة المسير نحو إفشال الانقلاب، واستعادة الحريات، التي انتهكت على يد الانقلاب الغاشم.
لقد كان ميدان رابعة العدوية قبل فضه، محط أنظار المسلمين والأحرار في كل بقاع العالم، وسط تحد لكل المشاق والمعوقات والظروف. وكان في كل يوم يزداد قوة ومصداقية في تعبيره عن حال الشعب المصري، ورفض الانقلاب على كل المكتسبات التي نالها الشعب المصري بعد ثورته في الخامس والعشرين من يناير. إلا أنه وبعد فضه تعدى حدود الميدان، ليسع مصر جميعها، بل ليستقر في قلوب كل الأحرار والشرفاء.. فيصبح أيقونة للحرية والصمود، والعزة والكرامة، ورفض النزول على رأي الفسدة والخونة.
لقد كانت الهجمة الوحشية التي تعرض لها أبطال رابعة، تعكس بشكل حقيقي حالة القوة والانتصار التي ظفر بها المعتصمون، فأرادوا أن يخمدوا ذاك الانتصار، بطلقات الرصاص والقناصة، وبجنازير الدبابات والمدرعات، وبالقصف من الطائرات. إلا أنه وبمقدار الهمجية التي قتلوا فيها أبناء رابعة، كانت ردة الفعل من مصر خصوصاً والمسلمين عموماً. فأصبح شعار رابعة، يرفع في كل مظاهرة ومسيرة، ورمزاً للحرية يلتف حوله الأحرار، حتى بات هذا الشعار يزين الفضاء الإلكتروني، ليؤكد على فشل سلطة الانقلاب في مصر في إخماد صوت الحق، وإطفاء جذوته.
إن رابعة العدوية، أصبحت نبضاً لكل القلوب المؤمنة، وللنفوس المتعطشة للحرية، ولكل حر يسعى لاسترداد كرامته وعزة أمته. وإن شهداء رابعة الأبطال، باتوا رموزاً للحرية والصمود، كيف لا، وهم من استقبلوا طلقات "جيشهم" بصدورهم العارية، لا يملكون إلا الإيمان العميق، والإرادة القوية، والعزيمة والإصرار.
"
إن سلطة الانقلاب في مصر، أخطأت حينما فضت اعتصام رابعة العدوية، حيث حولت مصر كلها إلى ميادين، تنبض بنبض رابعة، وترفع شعارها وتردد مطالبها.
"
إن سلطة الانقلاب في مصر، أخطأت حينما فضت اعتصام رابعة العدوية، حيث حولت مصر كلها إلى ميادين، تنبض بنبض رابعة، وترفع شعارها وتردد مطالبها. ليزداد التفاف الناس حولها، ولتستمر الملايين في النزول للشوارع، معلنة أنها لن تهدأ أو تستكين، حتى تحقق مطالبها، وعلى رأس ذلك دحر الانقلاب وقادته، واستعادة سلطتهم التي عبرت عن رأيهم واختيارهم، بكل شفافية ونزاهة.
إن شعار رابعة العدوية، تعدى جماعة الإخوان المسلمين في مصر، والمطالبين بعودة الشرعية، ليصبح قضية كل حر وشريف، وكل مؤمن بحرية الإنسان وكرامته. ولهذا لا غرابة أن تجد الناس بمختلف أصنافهم، يخرجون للشوارع يرفعون شعار رابعة، ويهتفون باسمها في كل جزء من مصر؛ وذلك لأن انتهاك السلطة لحقوق الإنسان وكرامته على هذه الطريقة، رغم سلميته وعدم اعتدائه على الدولة ومقوماتها، سبب في زيادة الغضب والحقد على السلطة، من كل حر له ذرة من إنسانية، أو يمتلك حس ولو بسيط من الدين والغيرة.
ستظل رابعة، بعد مرور شهر على ما ارتكب بحقها، بوصلة لكل الأحرار، ومعيناً للصمود والثبات في الميادين، ومرتكزاً أساسياً لكسر الانقلاب وما ترتب عليه من إجرام بحق المصريين، وخيانة لدماء شهداءهم وتضحياتهم.