ليس هناك مشهد أشد غرابة وإنكاراً من رجل آتاه الله علماً فسخره لما يخالف أوامر الله وتشريعاته. فالأصل بمن ازداد علماً بأحكام الشرع ومقاصده، أن يزداد قربه إلى باريه عز وجل، وأن يكون عصياً على اتباع الهوى، والركون إلى الظالمين.
فالعلم الشرعي، ليس عبارة عن نظريات مجردة عن الواقع، ولا فلسفات غيبية بعيدة عن السلوك والعمل، بل لا قيمة له إن لم تظهر آثاره على صاحبه وحامله. ولهذا هو يدفع صاحبه إلى الالتزام بالحق والثبات عليه، كحال الأنبياء ومن معهم من المؤمنين الذين ضربوا أروع الأمثلة في الصبر والتضحية في سبيل الله، وعدم الرضوخ لكل صور الترغيب والترهيب التي استخدمها أعداؤهم ضدهم.
لكن ورغم ذلك، نجد أن بعض من حملوا هذا العلم، ركنوا إلى الدنيا، وأخلدوا إليها، فحادوا عن الطريق المستقيم، وضلوا وأضلوا. ولعظم جرمهم وخطيئتهم جاء القرآن ليصف حالهم، ويحذر الأمة وعلمائها خصوصاَ من القيام بأفعالهم.
بين الهدى والهوى..
يقول الله تعالى: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} [الأعراف: 176، 175].
هاتان الآيتان تصوران حال ذاك الشخص الذي تخلى عن علمه ودينه، وسخره لخدمة الظالمين والمفسدين، ومحاربة المؤمنين.
وقد أسهب المفسرون في الحديث عن ذاك المقصود بالآية، فمنهم من ينسبه إلى رجل من بني إسرائيل اسمه (بلعم بن باعوراء) وكان من علماء بني إسرائيل زمن موسى عليه السلام ومن مجابي الدعاء، فدعا على موسى ومن معه – رغم علمه أنهم على الحق- ووقف مع الباطل ضد أهل الحق المتمثلين بموسى ومن معه.
الآيات الكريمة تتحدث عن مشهد واقعي، لا ينحصر بزمن أو بشخص دون آخر، بل هي قابلة للتكرار، ما استمر الصراع بين الحق والباطل.
وبعضهم ينسبها إلى أمية بن الصلت، حيث كان يعلم أن الله سيرسل رسولاً بناء على اطلاعه على الكتب وقراءته فيها، فلما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم، لم يؤمن به، ومات كافراً.
وهناك أقوال أخرى، لا يسعنا المقام لعرضها، لكن مما لابد التنبيه إليه، أن العبرة في المضمون والمحتوى، وليس في الشخص والحادثة التي تختص به.
فالآيات الكريمة تتحدث عن مشهد واقعي، لا ينحصر بزمن أو بشخص دون آخر، بل هي قابلة للتكرار، ما استمر الصراع بين الحق والباطل.
يشير الرازي –رحمه الله- في تفسيره، إلى أن الآية تتعلق بذاك الذي تعلم حجج التوحيد وفهم أدلتها حتى صار عالماً بها، فانسلخ منها، وخرج من محبة الله إلى معصيته، ومن رحمته إلى سخطه.
وهذا ما استفاد منه سيد قطب – رحمه الله- في الظلال، حيث قال : " وكم من عالم دين رأيناه، يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها، ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة، والفتاوى المطلوبة لسلطان الأرض الزائل! يحاول أن يثبت بها هذا السلطان المعتدي على سلطان الله وحرماته في الأرض جميعاً".
والغريب أن العالم إذا انحرف عن مقاصد علمه وأحكامه، كان انحرافه كبيراً عظيماً، وكان ضلاله خطيراً، وسقوطه مدوياً.
يقول أهل العلم: "من أوتي الهدى ، فانسلخ منه إلى الضلال والهوى والعمى ، ومال إلى الدنيا حتى تلاعب به الشيطان ، كان منتهاه إلى البوار والردى ، وخاب في الآخرة والأولى".
ويقول الرازي: "كل من كانت نعم الله في حقه أكثر ، فإذا أعرض عن متابعة الهدى وأقبل على متابعة الهوى ، كان بعده عن الله أعظم". وهل هناك نعمة أعظم من معرفة أحكام الله، والتعمق في أدلتها ومقاصدها!!
جمالية التوصيف
لقد تميزت الآيتين السابقتين، بدقة التوصيف وبلاغته في التعبير عن الواقع وحال ذلك الذي حاد عن الطريق والمنهج.
فقد صورت الآيات الإيمان بجلد الإنسان، والانسلاخ لا يكون إلا مما هو ملتصق به، كمن ينسلخ عن جلده. فجلد الإنسان ملتصق به ساتر لجسمه، ويعطيه جمالاً وبهاء، ويحميه من الأمراض المختلفة. وهذا لابد أن يتحقق في الإيمان، بحيث يكون ملازما للإنسان، يدفعه لفعل الطاعات، ويحميه من الزلل، ويزين صاحبه بالتقرب إلى الله، والثبات على منهجه.
يقول د. صلاح الخالدي: " ليس الإيمان موضة لوقت من الأوقات، ولازماً لساعة من الساعات، ولا ساعة يعيشها الإنسان من يومه دون باقي الساعات. إن الإيمان حالة دائمة، تلازم المؤمن في كل وقت وزمان ومكان"
وبناء على هذا، نجد أن أولئك العلماء المؤمنين، الذين كان إيمانهم دافعاً لخدمة دين الله، والدفاع عنه بشتى السبل، قد رفع من قيمتهم، وأعلى شأنهم، وجعلهم منارات للأمة، تقتدي بهم، وتتبع خطاهم، في صراعها ضد أعدائها حتى تحقيق النصر والعزة.
العالم الذي تخلى عن علمه في سبيل الدنيا ونيل شهواته، يلهث باستمرار وراء حطامها، وسعياً لنيل رضا الظالمين والمفسدين، دون اعتبار لما كان يحمله من قيم ومبادئ.
في حين أن ذاك الذي أخلد إلى الأرض، واتبع هواه، وفضل الدنيا على الآخرة، قد هبط وخسر، وسرعان ما ينتفض الناس عليه وينفضوا عنه، بحيث تسقط قيمته ومكانته من نفوسهم، فيصبح منبوذاًَ مطروداً، وقد خسر الدنيا والآخرة.
أما التوصيف الثاني، فهو وصف حال ذلك العالم بالكلب الذي يلهث في جميع أحواله، فالعالم الذي تخلى عن علمه في سبيل الدنيا ونيل شهواته، يلهث باستمرار وراء حطامها، وسعياً لنيل رضا الظالمين والمفسدين، دون اعتبار لما كان يحمله من قيم ومبادئ.
يقول الإمام الرازي: " واعلم أن هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلاب، وإنما وقع بالكلب اللاهث، وأخس الحيوانات هو الكلب، وأخس الكلاب هو الكلب اللاهث، فمن آتاه الله العلم والدين فمال إلى الدنيا، وأخلد إلى الأرض، كان مشبها بأخس الحيوانات، وهو الكلب اللاهث ، وفي تقرير هذا التمثيل وجوه :
الأول: أن كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب اللاهث فإنه يلهث في حال الإعياء، وفي حال الراحة، وفي حال العطش، وفي حال الري، فكان ذلك عادة منه وطبيعة، وهو مواظب عليه كعادته الأصلية، وطبيعته الخسيسة، لا لأجل حاجة وضرورة، فكذلك من آتاه الله العلم والدين وأغناه عن التعرض لأوساخ أموال الناس، ثم إنه يميل إلى طلب الدنيا، ويلقي نفسه فيها، كانت حاله كحال ذلك اللاهث، حيث واظب على العمل الخسيس، والفعل القبيح، لمجرد نفسه الخبيثة، وطبيعته الخسيسة، لا لأجل الحاجة والضرورة.
والثاني: أن الرجل العالم إذا توسل بعلمه إلى طلب الدنيا، فذاك إنما يكون لأجل أنه يورد عليهم أنواع علومه ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها، ولا شك أنه عند ذكر تلك الكلمات، وتقرير تلك العبارات يدلع لسانه، ويخرجه لأجل ما تمكن في قلبه من حرارة الحرص وشدة العطش إلى الفوز بالدنيا، فكانت حالته شبيهة بحالة ذلك الكلب الذي أخرج لسانه أبدا من غير حاجة ولا ضرورة، بل بمجرد الطبيعة الخسيسة.
والثالث: أن الكلب اللاهث لا يزال لهثه البتة، فكذلك الإنسان الحريص لا يزال حرصه البتة."