الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فسنتناول الحديث عن مناهج الإصلاح في ثلاث حلقات:
الأولى: مقدمة في مناهج الإصلاح.
الثانية: منهج الدعوة السلفية في إصلاح الفرد والمجتمع والدولة.
الثالثة: عرض مجمل لمناهج الإصلاح الأخرى.
وأما العرض التفصيلي للمناهج الأخرى فنحيل فيه على بحث "السلفية ومناهج التغيير".
وهذه هي الحلقة الأولى من هذه الدراسة -نسال الله التوفيق والرشاد-.
1- التغيير أم الإصلاح؟
جاء استعمال التغيير في قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11)، وواضح أن الآية هنا تشمل التغيير من الحسن إلى السيئ، ومن السيئ إلى الحسن, وعندما ينادي إنسان بمنهج تغيير فإنه يزعم بطبيعة الحال أنه ينادي بالتغيير إلى الأحسن، وهذا يسمى "الإصلاح".
إذن التغيير والإصلاح يستعملان في هذا المجال بمعنى متقارب أو مترادف؛ لأنك إذا قلتَ تغييرًا فتعني تغييرًا إلى الأحسن الذي هو الإصلاح, وقد جاء في القرآن ما حكاه الله -تبارك وتعالى- عن شعيب -عليه السلام- قال: (إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ)(هود:88).
2- "مرجعية الصلاح - علم الصلاح - علم الإصلاح - ممارسة الإصلاح":
بطبيعة الحال فإن الذي نُعنى به هنا هو إصلاح المجتمع الإنساني (إصلاح الإنسان سواء كفرد أو كمجتمع)؛ إلا أن هذه العملية لا تختلف في آلياتها عن الإصلاح المادي الذي تجده في الطب، ويسمى: "العلاج"، وفي صيانة الأجهزة والمعدات ونحوها، ويسمى: "الإصلاح".
نأخذ مثالاً من الحياة المادية للإصلاح، وليكن مثال: الطب, فالطبيب قبل أن يتصدى لعلاج المرضى يجب أن يحصِّل علمًا نظريًّا، ويمكن أن نطلق عليه (علم الإصلاح)، وبعد تحصيل هذا العلم يُصرَّح له بـ (ممارسة الإصلاح).
وعلم الإصلاح يتضمن بدوره:
- دراسة حال الصلاح (علم الصلاح).
- ودراسة ما يطرأ على هذه الحال من انحرافات.
- وأساليب علاج هذه الانحرافات.
ومن جهة أخرى فإن علم الصلاح يحتاج إلى:
أولاً: تحديد المرجعية.
ثانيًا: الرجوع إلى تلك المرجعية لتعلم الوصف التفصيلي لحال الصلاح.
3- قواعد الصلاح مطلقة وطرق الإصلاح نسبية:
مما ينبغي أن يُنتبه إليه أن قواعد الصلاح مطلقة ومجردة؛ بمعنى أنها ليس لها علاقة بفلان المريض أو فلان الطبيب, أما عندما تأتي إلى ممارسة الإصلاح فتتحدث هنا عن قضايا أعيان، ففي مجال الطب تتحدث عن شخص بعينه، أو في إصلاح المعدات تتحدث عن جهاز بعينه.
ويكون ذلك من خلال خطوتين:
أولاً: تشخيص الانحراف الموجود: في هذا الشخص عن حال الصحة أو الانحراف الموجود في تلك المعدة عن الحالة القياسية أو عن التصميم الأصلي، فهذه هي مرحلة التشخيص.
ثانيًا: كتابة العلاج: وغني عن الذكر أن كل "روشتة" تخص صاحبها فقط.
ومن الأخطاء الشائعة أخذ مريض لروشتة كُتبت لآخر، ويشابهه في مجالنا تطبيق البعض للنصوص في غير مناسبتها كمن يأخذ قواعد دعوة الكفار فيطبقها على دعوة المسلمين, أو يأتي بأحكام تتحدث عن المجتمعات الكافرة ويطبقها على المجتمعات الإسلامية.
فائدة في التدرج:
وإذا استقر في الذهن أن قواعد الصلاح مطلقة ومجردة بينما روشتة الإصلاح تخص حالة بعينها فسوف تنحل لنا الكثير من المشكلات، ومنها قضية التدرج؛ ونعني به إجراء إصلاح جزئي كخطوة على طريق الإصلاح الكلي.
وله حالتان:
الأولى: عندما يكون ذلك الإصلاح -وإن كان جزئيًّا- هو غاية الممكن، وينطبق عليه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن:16).
الثانية: أن يحدث لدى بعض الأفراد إرادة ضعيفة للإقلاع عن ذنب ما فلا تطاوعه نفسه إلا على الإقلاع التدريجي رغم إمكانية الإقلاع الفوري.
والناس في ذلك النوع طرفان ووسط:
فالطرف الأول: من يرى أن ذلك التغيير هو والعدم سواء طالما أن صاحبه لم يتب التوبة النصوح ويقلع الإقلاع التام عن المعاصي.
والطرف الثاني: مَن يرحب بهذا ويزيد عليه -لا سيما في المعاصي الواسعة الانتشار- أن ينسب إلى الدين إباحة درجات مخففة منها (كالموسيقى الهادئة على سبيل المثال!).
والوسط:
اعتبار هذا نوع من تقليل الشر والفساد، مع التأكيد على صاحبه أنه ما زال متلبسًا بمعصية، وإن كانت أقل خطرًا من الأخرى.
وحتى في حالة العجز الحقيقي عن الإصلاح الجذري الفوري لا يجوز أن نصف شيئًا مخالفًا للشرع بأنه شرعي لكونه هو (المتاح)، بل يجب أن يبقى وصفنا للشرع (مطلقًا مجردًا)، ووصفنا لحال كل شخص أو مجتمع يكون لكل حالة بما تقتضيه.
وحال مَن يحاول أن يصدر فتاوى بالترخص في بعض المخالفات لكون أن عامة الناس متمسكين بها أو لوجود واقع معين يحتم التدرج فيها كحال الطبيب الذي إذا لم يجد إلا علاجًا جزئيًّا يعود إلى كتب الطب ليعدل فيها وصف حال الصلاح القياسي؛ ليوهم نفسه ومريضه بأنه تناول العلاج الجذري الناجع، مع أن هذا على فرض حدوثه في عالم الطب سوف يضر بكثير من المرضى ممن يطيقون العلاج الناجع، بل إنه عندما يقاس به الصحيح يبدو عنده انحراف في الجانب الآخر، ومن هنا تدرك سر وصف أصحاب هذا المنهج لدعاة السلفية بالتطرف!