عناصر الموضوع:
1- حقيقة الاختلاف 2- أقسام الاختلاف 3- آداب الاختلاف 4- فوائد الاختلاف 5- الأعراض السيئة للاختلاف 6- تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الاختلاف 7- معالم أدب الاختلاف في عصر النبوة 8- سبيل النجاة.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله، وبعد:
فإن أمراض المسلمين في عصرنا هذا – قد تعددت وتشعبت وفشت حتى شملت جوانب متعددة من شئونهم الدينية والدنيوية، ومن العجب أن الأمة المسلمة لا تزال على قيد الحياة، لم تصب منها تلك الأدواء – بحمد الله – مقتلاً على كثرتها وخطورتها، وكان بعضها كفيلاً بإبادة أمم وشعوب لم تغن عنها كثرتها ولا وفرة مواردها، ولعل مرد نجاة هذه الأمة إلى هذا اليوم رغم ضعفها هو وجود كتاب الله ربها وسنة نبيها -صلى الله عليه وآله وسلم- بين ظهرانيها ثم دعوة نبيها -صلى الله عليه وآله وسلم- واستغفار الصالحين من أبنائها (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال:33).
وإن من أخطر ما أصيبت به هذه الأمة في الأونة الأخيرة مرض (الاختلاف.. الاختلاف في كل شئ، وعلى كل شئ، حتي شمل العقائد والأفكار والتصورات والآراء إلى جانب الأذواق والتصرفات والسلوك والأخلاق وتعدى الاختلاف كل ذلك حتى بلغ أساليب الفقه وفروض العبادات وكأن كل ما لدى هذه الأمة من أوامر ونواه يحثها على الاختلاف أو يدفعها إليه والأمر عكس ذلك تماماً.
فإن كتاب الله وسنة رسوله ما حرصا على شئ بعد التوحيد حرصهما على تأكيد وحدة الأمة ونبذ الاختلاف بين أبنائها ومعالجة كل شئ من شأنه أن يعكر صفو العلاقة بين المسلمين أو يخدش أخوة المؤمنين، ولعل مبادئ الإسلام ما حضت على شئ حضها على الوحدة والائتلاف بين المسلمين؛ وأوامر الله ورسوله واضحة في دعوتها لإيجاد الأمة التي تكون كالجسد الواحد إذا اشتكي بعضه أصابه الوهن كله.
حقيقة الاختلاف
الاختلاف والخلاف
الاختلاف والمخالفة أن ينهج كل شخص طريقاً مغايراً للآخر في حاله أو في قوله. والخلاف أعم من "الضد" لأن كل ضدين مختلفان، وليس كلُّ مختلفين ضدين، ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يفضي إلى التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة، قال تعالى:
((فاخْتَلفَ الأحْزابُ مِنْ بينِهم…)) [مريم:37]
((وَلا يزَالُون مُخْتلِفين)) [هود:118]
((إنَّكُم لفِي قولٍ مُخْتلِف)) [الذاريات:8]
((إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بينهم يوْم القِيامةِ فيما كانوا فيهِ يخْتلِفون)) [يونس:93].
وعلى هذا يمكن القول بأن "الخلاف والاختلاف" يراد به مطلق المغايرة في القول أو الرأي أو الحالة أو الهيئة أو الموقف.
أقسام الخلاف من حيث الدوافع:
1- خلاف أملاه الهوى: قد يكون الخلاف وليد رغبات نفسية لتحقيق غرض ذاتي أو أمر شخصي، وقد يكون الدافع للخلاف رغبة التظاهر بالفهم أو العلم أو الفقه، وهذا النوع من الخلاف مذموم بكل أشكاله ومختلف صوره لأن حظ الهوى فيه غلب الحرص على تحري الحق، والهوى لا يأتي بخير فهو مطية الشيطان إلى الكفر، قال تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) «البقرة 87».
وبالهوى جانب العدل مَن جانبه مِن الظالمين، (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) «النساء 135»، وبالهوى ضل وانحرف الضالون، (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) «الأنعام 56»، والهوى ضد العلم ونقيضه، وغريم الحق، ورديف الفساد، وسبيل الضلال: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) «ص 26». (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) «المؤمنون 71». (وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) «الأنعام 116».
وأنواع الهوى متعددة وموارده متشعبة وإن كانت في مجموعها ترجع إلى «هوى النفس وحب الذات» فهذا الهوى منبت كثير من الأخطاء وحشد من الانحرافات ولا يقع إنسان في شباكه حتى يزين له كل ما من شأنه الانحراف عن الحق والاسترسال في سبيل الضلال حتى يغدو الحق باطلا والباطل حقا والعياذ بالله.
ويمكن رد خلاف أهل الملل والنحل ودعاة البدع في دين الله تعالى إلى آفة الهوى ومن نعم الله على عبده ورعايته سبحانه أن يكشف له عن مدى ارتباط مذاهبه وأفكاره ومعتقداته بهوى نفسه، قبل أن تهوي به في مزالق الضلال، حتى يضيء المولى سبحانه مشاعل الإيمان في قلبه فتكشف زيف تلك المذاهب أو الأفكار أو المعتقدات ذلك لأن حسنها في نفسه لم يكن له وجود حقيقي بل هو وجود ذهني أو خيالي أو صوري صوره الهوى وزينه في النفس ولو كان قبيحا في واقعه أو لا وجود له إلا في ذهن المبتلى به.
ولاكتشاف تأثير الهوى في فكرة ما طرق كثيرة: بعضها خارجي وبعضها ذاتي:
أ - فالطرق الخارجية لاكتشاف أن الهوى وراء الفكرة موضع الاختلاف أن تكون مناقضة لصريح الوحي من كتاب وسنة ولا ينتظر ممن يزعم في نفسه الحرص على الحق أن يلهث وراء فكرة تناقض كتاب الله وسنة نبيه «ص».
ومما يكشف كون الفكرة وليدة الهوى: تصادمها مع مقتضيات العقول السليمة التي يقبل الناس الاحتكام اليها ففكرة تدعو إلى عبادة غير الله أو تحكيم غير شريعته في حياة الناس وفكرة تدعو إلى إباحة الزنا أو تزيين الكذب أو تحض على التبذير لا يمكن أن يكون لها مصدر غير الهوى ولا يدعو لها إلا من بيد الشيطان زمامه.
ب - أما الطرق الذاتية لاكتشاف ما إذا كان الهوى محضن الفكرة فتكون بنوع من التأمل والتدبر في مصدر تلك الفكرة ومساءلة النفس بصدق حول سبب تبنيها لتلك الفكرة دون غيرها، وما تأثير الظروف المحيطة بصاحب الفكرة ومدى ثباته عليها إن تبدلت؟ وهل هناك من ضغوط وجهت المسار دونما شعور؟ ثم الغوص في أعماق الفكرة نفسها، فإن كانت قلقة غير ثابتة، تتذبذب بين القوة والضعف تبعاً لمشاعر معينة، فاعلم أنها وليدة الهوى ونزغ من الشيطان فاستعذ بالله السميع العليم، وأحمده على أن بصرك بالحقيقة قبل أن يسلسل قيادك لهوى النفس.
2- خلاف أملاه الحق: قد يقع الخلاف دون أن يكون للنفس فيه حظ أو للهوى عليه سلطان فهذا خلاف أملاه الحق، ودفع إليه العلم واقتضاه العقل، فمخالفة أهل الإيمان لأهل الكفر والشرك والنفاق خلاف وواجب لا يمكن لمؤمن مسلم أن يتخلى عنه، أو يدعو لإزالته لأنه خلاف سداه الإيمان ولحمته الحق.
وكذلك اختلاف المسلم مع أهل العقائد الكافرة والملحدة، كاليهودية والنصرانية والوثنية والشيوعية، ولكن الاختلاف مع أهل تلك الملل وهذه العقائد لا يمنع من الدعوة إلى إزالة أسبابه بدخول الناس في دين الله أفواجا وتخليهم عن دواعي الخلاف من الكفر والشرك والشقاق والنفاق وسوء الاخلاف والإلحاد والبدع والترويج للعقائد الهدامة.
3- خلاف يتردد بين المدح والذم: ولا يتمحض لأحدهما، وهو خلاف في أمور فرعية تتردد أحكامها بين احتمالات متعددة يترجح بعضها على بعضها الآخر بمرجحات وأسباب سنأتي على ذكرها إن شاء الله ومن أمثلة هذا التقسيم: اختلاف العلماء في انتقاض الوضوء من الدم الخارج من الجرح، والقيء المتعمد، واختلافهم في حكم القراءة خلف الإمام وقراءة البسملة قبل الفاتحة والجهر بـ «آمين» وغير ذلك من أمثلة تضيق عن الحصر وهذا النوع من الاختلاف مزلة الأقدام، إذ يمكن فيه أن يلتبس الهوى بالتقوى، والعلم بالظن والراجح بالمرجوح والمردود بالمقبول ولا سبيل إلى تحاشي الوقوع في تلك المزالق إلا باتباع قواعد يحتكم اليها في الاختلاف، وضوابط تنظمه، وآداب تهيمن عليه، وإلاّ تحول إلى شقاق وتنازع وفشل، وهبط المختلفان فيه عن مقام التقوى إلى درك الهوى، وسادت الفوضى، وذر الشيطان قرن.