إن الضبابية التي نغلف بها مشكلاتنا والتي تفضي إلى استنتاجات في حدها الأعلى مشوشة قد نختصر أسبابها بهيمنة مفردتي (العيب والحرام) اللتين تلعبان في واقعنا دوراً معوقاً لأي إسهام جاد في هذا الاتجاه .
فما ليس محرماً الحديث فيه قد يكون عيباً، ولذا كنا أبعد ما نكون عن ذواتنا على الرغم من الحاجة الملحة لدى المعتقلين في ثقافة العيب لمن يخوض المعركة بالنيابة عنهم.
ثقافة معيقة و معطلة
" للأسف إن غالبية مواضيع حياتنا اليومية تخضع لكلمة "عيب" و الخوف من الناس و هذا ما لا يستطيع أحد نكرانه." هكذا عبر الثلاثيني إبراهيم الرملاوي عن رأيه بالموضوع، و أضاف :" بدل أن تكون كلمة عيب رادعاً لكثير من التصرفات الغريبة أصبحت ظاهرة سلبية بحد ذاتها، لاسيما و أنها تطلق على كل شيء، الأمر الذي من خلاله قد نقع في الذنب دون علم" .
ومن جهتها ترى العشرينية "رؤى الشنطي" أن الفرق شاسع ما بين ما يبيحه الدين و يحرمه و بين ما تبيحه العادات والتقاليد و ما تحرمه أيضاً، مضيفةً أن التنشئة الأسرية و التربوية لها الدور بأكمله للفصل ما بين كلمة عيب و حرام ، و بيان مدى قرب أو بعد كلمة " عيب" من الأحكام الشرعية حتى ترسخ في عقول الأجيال، على حد تعبيرها.
أما سائدة عوض (43 عاماً) ترى بأن غالبية الأسر تتجه في تربية صغارها على مفهوم "العيب" بعيداً عن مدى ارتباطها بالحلال أو الحرام، و ما أن يسأل أحدهم في موضوع ما أحله الشرع تحجب عنه الإجابة و هي من حقه، الأمر الذي يجعله يبحث عنها بأساليب خاطئة بعيدة عن الشرع .
العيب أشد من الحرام
من ناحيته، أكد الدكتور زياد مقداد أستاذ الفقه في الجامعة الإسلامية بغزة، على أهمية الرجوع إلى الأحكام الشرعية في كل أمر.
وأضاف:" العيب هو ما عابه الشرع و حرمه و ليس ما عرف بين الناس من عادات و تقاليد، و من هنا ينبغي على الأهل تنشئة أطفالهم على علم الدين لقوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا"
وأوضح مقداد أن ثقافة العيب عند الناس باتت أشد على البعض من " الحرام " ، لذا نرى أن البعض يقصد من العمل ما يليق بمستواه الاجتماعي وما يتقبله منه الناس على حساب عدم مشروعيته في بعض الأحيان ، و لو كان مستواه الاجتماعي أقل و برزق حلال لما عمل به خوفاً من نظرة الخلق أكثر من خوفه من الخالق.
وأشار مقداد إلى أن أي شيء يخالف الشرع لا بد من رفضه و ما كان فيه نفع للأمة يؤخذ به و يؤجر عليه صاحبه، "وهذا ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خلال دعوته التي استندت لأحكام الله و ألغت ما كان من عادات خاطئة كانت قد سادت في الجاهلية لقوله صلى الله عليه وسلم :" ليس منا من دعا إلى عصبية"، والعصبية هنا تشمل العادات والتقاليد الباطلة التي يسير عليها البعض نتيجة ضعف وازعهم الديني، بحسب مقداد.
الفرق بين العيب والحرام
ولفت مقداد إلى أن العيب ينبع من عادات وتقاليد كل مجتمع على حدة، سواء بعمر هذا المجتمع أو على حسب الفترة الزمنية الماضية أو الحالية، مشيراً إلى أن بعض العيب في الماضي قد يكون أمراً عادياً الآن .. والعيب يستمد قوانينه من قواعد بشرية قد تسمى ذوقاً أو أدباً أو مروءة.
وتابع:" أما الحرام فهو مستمد من شريعة الله، وواحد في كل المجتمعات، وبالتالي لا يجوز تخطيه بل يجب علينا تجنبه، وفاعله مؤاخذ شرعاً، مؤكداً على أن ليس كل عيب حرام إنما كل حرام هو عيب ولا يجوز القيام به".
وقال مقداد لــ"بصائر":" إذا ارتكَب الطِّفل خطأ مُعيَّنًا، أو تحرَّك مِن مكانه عند زيارة أحدٍ ما، أو جلس في مجالس الكبار، فإننا ننهَره ونَنهاه ونَنهال عليه بالتقريع والتوبيخ مردِّدين: "عيب"، "يا ولد عيب، اصمتْ؛ لدينا ضيوف"، مبيناً أنه بتصرُّفنا هذا قد نتسبَّب في ضعف شخصيَّة أبنائنا، فضلاً عن أن تلك المجالِس هي مدارس تعليم الرجولة والصَّلابة.
وأوضح أن النبي - صلى الله عليه وسلم – حرص على مُجالَسة الأطفال ومُمازَحتهم واللعب معهم، ولم يرَ في ذلك غضاضةً ولا ضيقًا، وهو صاحب المقام العالي الرفيع، وبرغم أعباء الدعوة وانشغالِه بها، ولكنَّه - صلوات ربي وسلامه عليه - هو القدوة والمربي الكريم، إلا أن بعض الآباء والأمهات قد يُسيئون التصرُّف مع أبنائهم في تلك المواقف، ولا يَقتدون بهدْي النبيِّ الكريم، ولا يتَّبعون الأُسُس التربوية القويمَة.
وشدد على أنه مِن المُفترَض والصحيح تربويًّا إذا ما ارتَكب الطفل خطأً ما أن نقوم بتوعيتِه وتوجيهِه التوجيه السليم، كأن يُخطئ ويرفَع صوته على أبيه مثلاً، ففي تلك الحالة لا نقول له فقط: "عيب يا ولد، لا ترفع صوتك على أبيك"، دون توجيه وتقويم، ولكن علينا أن نُرشِده ونُذكِّره بالأوامر الإلهية، ونُبيِّن له فضْل الوالدَين واحترامهم وطاعتهم، واقتران عبادة الله - عز وجل - بطاعة الوالدَين؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾، فيترسَّخ في ذهنِه ووجدانه قَدْرُ الوالدَين وقيمتُهم، فيسعى دائمًا ويَحرِص على نَيل رضاهم.
أسباب ثقافة العيب
وبدوره، قال الأخصائي الاجتماعي ورئيس قسم الخدمة الاجتماعية بالجامعة الإسلامية بغزة الدكتور وليد شبير:" إن الأسباب الحقيقة لثقافة "العيب"والتمسُّك بالتقاليد الاجتماعيَّة البالية لدى شُعوبنا، تَرجع إلى تفشِّي الجهل، وغياب الوعي الثقافي، وضَعفِ الوازِع الدِّيني".
وأضاف أنه يجب العمل على تجاوُزها مِن خلال الرجوع للدِّين والسنَّة المطهَّرة، ونبْذ الأفكار والسلوكيات النابِعة والمُستمَدَّة أصولُها وفروعها مِن عصر الجاهلية والمُعتَقدات الشركيَّة الفاسِدة، "فلا يُعيقنا كلامُ الناس ولا نخشى مَلامتَهم، ولكن الله أحقُّ أن نَخشاه".
أدلة على العيب والحرام
وذكر شبير أن التدخين حرم شرعاً بفتاوى علماء الدين وعلى الرغم من ذلك تجد الشاب لا يدخن أمام أبويه مثلاً أو إخوته الكبار، معتبراً أن ذلك عيباً كبيراً، فيكون خائفاً من انتقادهم له أو تعنيفه.. إنما يختلي بنفسه ليمارس تلك العادة السيئة غير آبهاً بأن الله معه هناك في خلوته.
واستدل شبير بمثال على شرعية أمر ما، مع كونه في نظر الناس عيباً، "هو الاعتذار ممن طرق بابك وأنت غير مستعد لاستقباله، فمباح شرعاً عدم أو تأخير استقباله لحين التهيؤ لمقابلته بدليل قوله تعالى { يَـاأيـُّهَا الَّذِينَ آمنوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَآ أَحَدًا فلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}، في حين أن ذلك يعتبر مجتمعياً سلوكاً غير مقبول خال من الذوق واللياقة والتهذيب، ويظهر هنا ضغط المجتمع، فلا تجد شخصاً يرفض مقابلة زائر مفاجئ لخوفه من الانتقاد، على حد وصفه.
الخلط بين المفهومين
وأكد شبير على أنه يحدث الخلط كثيراً بين الاثنين حالياً، وأحياناً تطغى كلمة العيب على ما هو محرم فيصبح الحرام أخف وطأة على أذن المتلقي من أن تقول له هذا عيب و يقابله بعدم اكتراث وقد يختلط مفهومه في ذهن السامع خاصة لو كان طفلاً، حيث يجب اختيار كلامنا أمامه وإكسابه المفاهيم الصحيحة، مشداً إلى أن ذلك يحدث نظراً لقلق الناس على مظهرهم الخارجي أو ما سيقال عنهم إن فعلوا كذا أو كذا وخوفهم من الانتقاد وبعضهم لا يكترث لذنب قد يكتسبه من وراء ذلك وبالتالي تطغى قوة المجتمع في هذه النقطة.
وقال شبير :" ما يجب علينا فعله والانتباه له دوماً خاصة في الأمور التربوية هو تقوية رد الفعل لدى السامع لكلمة حرام بحيث يفكر دوماً قبل أي عمل يقوم به في مدى مشروعيته من الناحية الدينية وليس من الناحية المجتمعية أو الظاهرية فحسب، فربه هو من سيحاسبه".
واسترسل قائلاً:" ينبغي أيضاً أن لا نهمل العيب .. فمعظم ما نقول عنه عيباً نابع من الرغبة في التأدب مع الآخرين وبالتالي أساس هام في التربية والتعامل بشكل عام، موضحاً أنه من المهم الفصل بين المفهومين ووضع كل منهما في موضعه الصحيح فلا يصح أن نقول على ما هو حرام شرعاً أنه عيب فقط لأننا بذلك نفقده أهميته".
وأردف قائلاً:" وكذلك لا ينبغي أن نقول عن بعض العيب أنه حرام حتى لا نكسبه القدسية الدينية والتي تنشئ الفرد مختلاً عن مجتمعه الذي يعيش فيه وقد تنقلب في تعاملاته مع الآخرين وما يقومون به من أفعال إلى مشكلات مسببة بذلك خللاً في علاقات الفرد بالآخرين".