اضطراب شخصية الطفل.. فتش عن الإشكالية التربوية

الرئيسية » بصائر تربوية » اضطراب شخصية الطفل.. فتش عن الإشكالية التربوية
اضطراب الأطفال

محمود (10 أعوام)، رسب في المدرسة العام السابق وكان أبوه قاسياً، وعلى العكس من ذلك كانت أمه مفرطة في تدليله، ووقع محمود في إشكالية بين أبيه وأمه، ففي لحظة رسوبه أخذ والده يعزو سبب الرسوب إلى تدليل الأم لابنها المفرط، فيما تبرر الأم ذلك بقسوة الأب على الابن، ما يدفع في نفسه الخوف ويدفعه للرسوب، وتستمر حالة التنصل هذه بين والدي محمود ويكون الابن هو الضحية، في حين يهرب الأبوان من أخطائهما. تلك الإشكالية التربوية تقع فيها الكثير من العائلات العربية.
وتجد أن الأب يشرق والأم تغرب وتلك "مقولة تلخص نموذجاً تربوياً سيئاً بشهادة جميع المختصين، وهي تقال وصفاً لحالة بعض الآباء تجاه أبنائهم، إذا كان كل طرف منهما يجر الحبل في اتجاهه، إنها الإشكالية التربوية التي سيكون فيها الوالدان غير متفقين على نموذج تربوي موحد، فهذا ينهى وذاك يسمح، هذا يعاقب والآخر يداعب، هذا يوبخ والآخر يطبطب..

 

آثار التناقض في الأساليب التربوية بين الأبناء

وليد شبيرفي هذا الصدد يتحدث الأخصائي الاجتماعي د.وليد شبير، موضحاً أن تربية النشء هي الرسالة التي يؤديها الأبوان للمجتمع ولعظم هذه الرسالة ومكانتها أوجب الله تعالى في مقابلها على الأبناء الطاعة للوالدين واحترامهما وعدم جرح مشاعرهما ولو بالشيء اليسير لقوله تعالى (ولا تقل لهما أف...) وقوله (وقل ربي ارحمهما...) وكلمة "أف"، هي أصغر كلمة يمكن أن يتلفظ بها الإنسان للإعراب عن تذمره وعدم رضاه".

 

وتابع قائلاً : "وما أود التركيز عليه هنا هو (كما ربياني صغيرا) وفيها إشارة واضحة على قدسية هذه الرسالة وجلالة قدرها لدرجة أن يقرن الله سبحانه وتعالى طاعته من طاعة الوالدين لذا فإنه ينبغي على الوالدين أن ينتبها إلى هذا الأمر وأن يأخذا هذه الرسالة على محمل الجد ويعطيانها من الأهمية ما يتناسب وحجم النتائج المترتبة عليها سلباً أو إيجاباً".

 

وأضاف شبير أن اختلاف المنهجية التربوية التي يتبناها الأبوان أمر بالغ الأهمية ويحمل كبير الأثر على النشء، ولكن قبل الخوض في تلك الآثار لا بد أن نفهم معنى الاختلاف في هذا السياق ونعي مظاهره فالمقصود في اختلاف المنهجية التربوية هو تبني كل طرف (الأب والأم) لأسلوب تربوي يتناقض مع الآخر.التناقض في الأساليب التربوية يتسبب في حدوث حالة من الاعتلال والاضطراب في شخصية الطفل حيث يتحتم عليه أن يتعاطى مع كل طرف بما يناسبه وبما يضمن له تحقيق مآربه ومقاصده، الأمر الذي يتسبب في خلق حالة من الصراع الداخلي في نفس الطفل والذي يعبر عنه هذا الأخير بصورة سلوكيات غير مرغوبة
واستدل على ما سبق بالقول: "كأن يكون أحد الأبوين على سبيل المثال (شديداً جداً) في التعاطي مع أبنائه في حين يكون الطرف الآخر ليّنا بشكل مفرط أو أن يتبنى أحدهما أسلوب الحرمان والآخر أسلوب التدليل وهكذا"..

 

وأكد شبير على أن ذلك التناقض في الأساليب التربوية يتسبب في حدوث حالة من الاعتلال والاضطراب في شخصية الطفل بصفته (المتلقي) حيث يتحتم عليه أن يتعاطى مع كل طرف بما يناسبه وبما يضمن له تحقيق مآربه ومقاصده، الأمر الذي يتسبب في خلق حالة من الصراع الداخلي في نفس الطفل والذي يعبر عنه هذا الأخير بصورة سلوكيات غير مرغوبة.

 

ولفت إلى بعض الآثار المحتملة لقيام حالة التناقض في الأساليب التربوية بين الأبوين والتي أبرزها ظهور حالة من التذبذب، وعدم الثقة في النفس، وعدم القدرة على اتخاذ القرار عند الطفل، وظهور حالة من القلق المرضي بسبب عدم قدرة الطفل على توقع ردود الأفعال من الأبوين أو احدهما وذلك نتيجة عدم نضجه وضحالة خبرته.

 

وأشار إلى أن هذه الحالة قد تقود إلى ظهور حالة الانحراف السلوكي عند الأبناء سواء بدافع الانتقام اللاإرادي أو بسبب الإحساس بعدم اهتمام الأبوين اتجاهه بالأخص، وأن حالة التناقض هذه تصاحبها حالة من ضعف الرقابة الأسرية في أغلب الأحيان.

 

واستكمل شبير حديثه عن الآثار بالقول: "ومع قيام حالة التناقض هذه نجد أن الطفل عندما يرتكب خطأ ما وهو أمر طبيعي على اعتبار أن الطفل يمر بمرحلة تعلم واكتساب خبرة نجد أن كلا الأبوين يحاولان التنصل من تقصيرهما ويرمي كل منهما بالاتهام على الطرف الآخر".

 

وأوضح أنه من الآثار السلبية أيضاً لمثل هذا الاتجاه في التربية فقدان الأبوين لمصداقيتهما أمام الطفل، الأمر الذي يجعل عملية التوجيه والتربية صعبة أو ربما غير ممكنة إلى حد ما، فالابن يصل إلى حالة من الإدراك أو القناعة بأن أي قرار يتخذه أبوه يمكن أن يكسره باللجوء إلى أمه، والعكس صحيح وفي هذه الحالة تكون الأرض خصبة ومهيأة لاتجاه الأبناء نحو الانحرافات السلوكية.

 

وفيما يخص الآثار المستقبلية المحتملة، ذكر شبير أن يتبنى الأبناء نفس الاتجاه التربوي عندما يصلون إلى سن الزواج وتكوين الأسرة على اعتبار أن هذا الأسلوب هو الأسلوب الذي تربوا عليه وبهذا تستمر حالة التناقض وتنتقل من جيل إلى آخر وبالتالي تستمر عملية إنتاج عناصر غير فاعلة أو ربما هدامة في المجتمع.

 

ولفت إلى أن انعدام الرؤية التربوية الموحدة بين الأب والأم اتجاه الطفل، تسبب شقوقاً فجة ومتعددة في الجدار الأسري، توفر فرصاً لا حصر لها أمام الطفل للانسلال من الرقابة الأبوية.

 

وحدوا استراتيجيتكم التربوية

درداح الشاعرمن جانب آخر، يرى الدكتور درداح الشاعر، أستاذ علم النفس في جامعة الأقصى بغزة، عند حديثه عن الطرق الحديثة لتربية الطفل عموماً، بأن تنشئة طفل صغير ليست عملاً هيناً، "فنشاط طفل وفضوله ولا معقوليته وإلحاحه وتقلبه الانفعالي والأهم من ذلك عدم إمكان التنبؤ بأفعاله وكلها خصائص النمو الطبيعي كثيراً ما تجعل تربية الطفل عملاً شاقاً، على الرغم من أن أساليب تنشئة الطفل قد تغيرت من فترة تاريخية إلى أخرى".

 

وأضاف أن الاتجاهات نحو الأطفال مرت بثورة فعلية إذ بإمكاننا أن نفترض أن الحاجات والسلوكيات للأطفال في سنواتهم الأولى لم تتغير، وأن أطفال الماضي تصرفوا خلال الخمس السنوات الأولى من حياتهم بأساليب لا تختلف كثيراً عن الأساليب التي يتصرف بها الأطفال حالياً، وهو ما يعني أنهم كانوا في أحيان كثيرة مزعجين بحكم طبيعة عدم نضجهم ذاته، أما الذي تغير إلى حد بعيد فهو سلوك الآباء نحو الأطفال.

بدلاً من استخدام العقاب البدني، والحرمان من الطعام، والوعيد وغيرها من المعاملات السيكولوجية القوية، لابد من التحول  إلى أساليب تأديبية أكثر سيكولوجية (الحجج والبراهين والإقناع والملاطفة، وصرف الانتباه وسحب الموافقة) وما إلى ذلك

وفي هذا الصدد يقول الشاعر: "أحدثت الأفكار الجديدة بشأن الطفولة ثورة حقيقية في رعاية الطفل، تميزت بالانتقال من التأكيد على حاجات الطفل المعترف بها حديثاً، منوهاً إلى أنه بزغ أسلوب للمشاركة الوجدانية في تنشئة الأطفال، كانت له أصداؤه ليس في أساليب تعامل الآباء الجديدة مع سلوك الأطفال فحسب بل أيضا في أساليب تصرف وتكيف الأطفال أنفسهم".

 

وأوضح أنه بدلاً من استخدام العقاب البدني، والحرمان من الطعام، والوعيد وغيرها من المعاملات السيكولوجية القوية، لابد من التحول  إلى أساليب تأديبية أكثر سيكولوجية (الحجج والبراهين والإقناع والملاطفة، وصرف الانتباه وسحب الموافقة) وما إلى ذلك.

 

نصائح وتوجيهات للآباء

وفيما يخص النصائح المقدمة للآباء فيما يخص التربية الواجب اتباعها للطفل، قال الشاعر: "تتركز كلها حول ضرورة توحيد الاستراتيجية التربوية المقدمة من خلال النصيحة بحيث يجب أن تختار الزوجة مع زوجها قواعد التربية التي يجب تطبيقها، فالطفل لا يفهم ولا يتقبل أن يسمح له أحد الوالدين فعل شيء، في حين أن الآخر يمنعه منه، إذ إن مثل هذه الوضعيات المتناقضة تسبب قلقاً له".

 

ونصح الأمهات بالقول: "تجنبي إن أقدم ابنك على فعل قبيح أن تحذريه بقولك "سأخبر أباك عندما يحضر" لأن ذلك سيحول هذا الأب (أو الأم) إلى إنسان مرعب، مخيف، أو على العكس سينتفي لهذه التحذيرات أي دور أو جدوى، إذا نسيت تحذيراتك هذه أو إذا استخف رفيقك بها أو لم يعرها انتباها، ولم يبد بالتالي أي ردة فعل اتجاه الطفل".

 

وتابع الشاعر بالقول: "وفي جميع الأحوال اعلمي أن تأخير معاقبة الطفل بعد عدة ساعات من فعله تصرف لا معنى له ولا يمكن أن يؤدي إلى نتائج إيجابية".

 

انعدام الاتفاق قد يؤدي إلى انحراف الطفل

من المهم أن تكون القرارات التي يتخذها الأبوان تجاه طفلهما أن تكون ذات صورة واحدة وموحدة، لأن الطفل إذا اتضح له أن كلا الأبوين غير متفقين على اتخاذ قرار معين يخص تصرفاً يجب أن يعمل به، فذاك يعني بالنسبة إليه أن احدهما ليس على صواب

وقال الشاعر: "إن انعدام الاستراتيجية الموحدة بين الأبوين في تربية الطفل ذات انعكاسات سيئة على هذا الأخير، إذ من المهم فيما يخص تربية الطفل أن تكون القرارات التربوية التي يتخذها الأبوان تجاهه ذات صورة واحدة وموحدة، لأن الطفل إذا اتضح له أن كلا الأبوين، سواء الأم أو الأب، غير متفقين على اتخاذ قرار معين يخص تصرفاً يجب أن يعمل به، أو موقفاً موحداً يتعلق بفعل بدر منه، فذاك يعني بالنسبة إليه أن احدهما ليس على صواب".

 

وأضاف أنه إذا كان الأمر كذلك، فمعناه أيضا أن هناك خللاً في الاستراتيجية التربوية وهذا ما سيوفر للطفل منافذ متعددة للانفلات من رقابة الوالدين، أي أن الطفل "سيلعب" على عدم الاتفاق هذا ليفعل بعد ذلك ما يحلو له، أو بمعنى آخر سيعمد إلى استغلال الظرف لصالحه، ومن ثم يزج بالمسألة التربوية في درب عسير ومأزق كبير يصعب حله، إذ سيصبح الطفل مستغلا للتناقض الحاصل بين الوالدين، فيقول لهذا كلاما ولذلك كلاما آخر، على حد تعبيره.

 

وأشار الشاعر إلى أن تماسك وحدة الرأي بين الزوج والزوجة تجاه أبنائهما يشكل أحد أعمدة تكوين شخصية الأطفال وذلك منذ الشهور الأولى بعد الولادة إلى الوصول بهم إلى بر الأمان الذي يتشكل في فترة ما بعد المراهقة لاحتمال الشخصية.

 

وتجدر الإشارة إلى أن الدراسات العالمية أفادت أن الحنان العائلي وحده يشكل 70‬٪ من مكونات البناء النفسي للطفل وبالتالي من ناحية العقاب عند اقتراف الطفل لبعض الأخطاء، وينصح الأبوين بأن يتماسكا في أخذ القرار لتجاوز إعادة الخطأ من طرف الطفل. وبالنسبة للطفل إذا اتضح له أن الأب ليس موافقا على قرار الأم أو العكس سيجعله يستغل هذه الفجوة ليعمق من هذا الخلل، وبالتالي يسير في طريقه إلى الخطأ، وهذا ما يسمى بالابتزاز العاطفي.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
صحفية فلسطينية مقيمة في قطاع غزة، حاصلة على درجة البكالوريوس في الصحافة والاعلام من الجامعة الاسلامية بغزة عام 2011م، وكاتبة في موقع "بصائر" الإلكتروني، وصحيفة "الشباب" الصادرة شهرياً عن الكتلة الاسلامية في قطاع غزة. وعملت في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية أبرزها صحيفة فلسطين، وصحيفة نور الاقتصادية، وصحيفة العربي الجديد.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …