يتفق العقلاء على أن الاختلاف بين الناس في التفكير والأسلوب أمر طبيعي يتوافق مع الطبيعة البشرية التي تختلف في نظرتها وتقديرها للأمور، فلكل إنسان عقلية خاصة تميزه عن غيره، وإلا كان تبعاً لغيره وهو أمر مرفوض؛ لأنه يلغي شخصية الإنسان والتي تقوم على الإبداع، وتحارب التقليد الأعمى.
وليس الاختلاف في الرؤى والأسلوب والتفكير أمراً مذموماً طالما أنه يسير وفق قواعد منضبطة، تحترم الرأي الآخر، وتبادل الحجة بالحجة والدليل بالدليل. لكن الاختلاف في ذات الوقت يكون مدمراً، وموهناً لكل الأركان التي تعتمد عليها الأمة، أو الدعوة، أو أية مؤسسة وغير ذلك، إذا خرج عن دائرة الاحترام إلى دائرة الهجوم والانتقاص، والجدل المذموم الذي حذر الإسلام منه.
الدعوة .. ومنهج التعامل مع التعددية
الحرية الزائدة غير المنضبطة، تعتبر صورة من صور الفوضى الخلاقة، والتي تزيل الشكل الهيكلي للدعوة، وتتجاوز كل المعايير والضوابط، مما يوقع الدعوة في التناقضات والتخبط والحرج والانقسام.
تعتبر الدعوة الإسلامية ممثلة بالجماعات أو الحركات العاملة للإسلام، مناخاً خصباً لوجود التعددية واختلاف الرؤى والاجتهادات بين الأفراد، وهو ما يعني ضرورة وضع بعض الأمور والقيود واللوائح التي تنظم آلية التعامل مع التعدد والاختلاف داخل الإطار الدعوي، بحيث لا يعود هذا الأمر على أصل الدعوة بالنقض والهدم، عن طريق هدم أهم أركانها المتمثل بالوحدة وعدم التفرق.
إضافة لذلك فإن الحرية الزائدة غير المنضبطة، تعتبر صورة من صور الفوضى الخلاقة، والتي تزيل الشكل الهيكلي للدعوة، وتتجاوز كل المعايير والضوابط، مما يوقع الدعوة في التناقضات والتخبط والحرج والانقسام.
لذا فمن الطبيعي والدعوة تتعرض للعديد من المستجدات والعوائق وغيرها من الأمور، أن تختلف تصورات التعامل معها من قبل الأفراد، وهو أمر يعطي الدعوة زخماً فكرياً ومرونة في كيفية التعامل مع هذه القضايا، عبر الشورى الحقيقية، والمتمثلة بالاطلاع على تلك الاجتهادات ومستنداتها، ومقارنتها بغيرها، وترجيحها أو إلغائها بناء على المآل المترتب عليها، وعلى مدى تأييدها لدى أفراد الصف الدعوي، عن طريق الانتخاب أو غيره من الطرق.
ومع ذلك، قد يتحفظ البعض على جزء من القرارات النهائية، ويرون بأنها قرارات غير سليمة، أو أنها ليست الأصلح للتعامل مع الواقع ومستجداته، وهنا تتزاحم مسألتان مهمتان، وهي تقديم التصور الفردي والإصرار عليه، ومسألة السير مع الجماعة والحفاظ على وحدتها حتى لو خالف قرار الفرد.
وبعيداً عن الإسهاب في بيان أهمية تقديم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، خصوصاً حينما تكون المسألة اجتهادية بحتة، وتعتمد على المصلحة ودرء المفسدة، والتي قد تختلف نسبياً بين فرد وآخر، من حيث نظرته وتقييمه للأمور. إلا أن الحفاظ على الجسم التنظيمي للدعوة، أولى من تحقيق المصالح الفردية بلا شك.
بين السر والجهر..
نظراً لما يتميز به عصرنا من سهولة لتبادل المعلومات، وطرح الآراء دون قيود أو شروط، فإن البعض قد يستغل هذه الوسائل المتعددة، في إظهار قوة رأيه وصحته، وانتقاد آلية اتخاذ القرار، أو إظهار عيوبه ومساوئه، أو الكشف عن بعض السلبيات التي قد تسود اتخاذ القرار، أو اتخاذه منبراً عاماً لتوجيه النصح العلني للقيادة، أو من اتخذوا القرار أو انتقادهم. الأمر الذي يدب الضعف والوهن داخل الصف الدعوي، بين مؤيد لهذا ومؤيد لذاك. ويزداد الوهن بشكل خطير إذا أصبحت هذه الخلافات ممثلة بتكتلات داخلية، بحيث يصبح لكل تكتل أنصاره ومؤيدوه، مع فضح أسرار الدعوة، واللمز في الآخرين، والتقليل من قيمتهم ومكانتهم.
لابد من التأكيد، على أن الدعوة بشكل عام لا تتكون من مجموعة من الأنبياء، بل يتمثل فيها الجهد البشري الذي قد يصيب فيه أصحابه وقد يجانبهم الصواب في أحيان أخرى
وهنا لابد من التأكيد، على أن الدعوة بشكل عام لا تتكون من مجموعة من الأنبياء، بل يتمثل فيها الجهد البشري الذي قد يصيب فيه أصحابه وقد يجانبهم الصواب في أحيان أخرى، ناهيك عن أن الطبيعة البشرية هي تقبل أن يقع منها الأخطاء المتعددة، سواء من حيث الرؤى والأفكار، أو من حيث التصرفات. وهنا يبرز دور أهمية الجانب التربوي، والتوعية الفكرية، لتجاوز حدوث هذه الأخطاء وتجاوز آثارها بما لا يخلّف ضرراً أكبر على الدعوة.
لذا فإن الأصل حال وقوع الخطأ سواء كان متعمداً أو غير متعمد، أن يتم علاجه بتلك النصيحة الأخوية السرية، التي تهدف إلى تغيير التصرف، وتبتعد عن مطلق الإساءة، ناهيك عن إحسان النوايا بالآخرين، والتواضع معهم، وعدم التعامل معهم بناء على أحكام مسبقة، أو التعالي عليهم.
وفي الوقت ذاته، فإن الانتقاد والنصيحة السرية داخل الأطر التنظيمية، ووفقاً للوائح الداخلية، أكثر فائدة، خصوصاً حينما يكون هناك من يتربص للدعوة، ويريد أن يستغل الخلاف العلني –رغم حسن نية أفراده- لتشويه الصورة، والتقليل من قيمتها وقبولها لدى الأفراد.
ولنا في فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، إذ رفض طلب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقتل زعيم المنافقين ابن سلول، -رغم أنه كان يستحق القتل- معللاً ذلك بقوله: (دعه.. لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه). وهذا يؤسس لفقه رشيد يراعي مآلات الأفعال وتقدير الأمور، داخل الصف الدعوي.
ومن مخاطر الجهر بالنقد وبيان العيوب، خصوصاً من القيادات الدعوية، إضعاف الحماسة لدى أفراد الدعوة، وتقليل ثقتهم بقادتهم، وتحفيز السذج وضعاف النفوس على التطاول على أصحاب الفضل والعاملين، بناء على نظرة فردية، قد تكون غير صحيحة، وبعيدة عن الإنصاف.
وقد يستهين البعض بما يقوم به من مظاهر تشق الصف الدعوي، مدعياً أن الكلام والكتابة لا يمكن أن تحدث ذلك الأثر الخطير، ويمكن الرد على ذلك، بقصة التابعي أبي معبد عبد الله بن عكيم الجهني، وهو أحد قدماء التابعين، حيث أسف وندم وتحسر على كلمات تفوه بها زمن عثمان بن عفان – رضي الله عنه- ظنها مساوئ تتعلق به، فتلقفها المغرضون واستباحوا دمه، وكان ذلك سبباً في وقوع فتن عظيمة ودماء كثيرة.
وفي مرة كان أبو معبد يجلس فيها بين بعض جلسائه، فقال: "لا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان". فيسأله أحدهم: "يا أبا معبد: أو أعنت على دمه؟"، فيقول: "إني لأرى ذكر مساوئ الرجل عوناً على دمه" (أخرجه البخاري في التاريخ الكبير بسند صحيح).
لا يصح من الداعية أن يضع كلامه إلا لمن هو أهل لوعيه، ولا يقبل منه بأي حال أن يجهر بما يريده من انتقاد أمام الجميع، فهذا باب مفاسده لا تقارن بمصالحه مطلقاً.وهذا الأمر فقهه عبد الرحمن بن عوف –رضي الله عنه-. ففي زمن الخليفة عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- أراد الخليفة الراشد أن يرد على من طعن على بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وما جرى في سقيفة بني ساعدة، وكان ذلك في موسم الحج، حيث يجتمع الناس على اختلاف علمهم، وثقافاتهم.
فهمّ عمر رضي الله عنه أن يتكلم بالناس جميعهم ليرد على ذلك، فنصحه عبد الرحمن بن عوف بقوله: "يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كل مُطيّر، وأن لا يَعوها وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكّنا، فيَعِي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها. فقال عمر: والله إن شاء الله لأقومنّ بذلك أول مقام أقومه بالمدينة".
وهنا درس تربوي وفكري مهم، أنه لا يصح من الداعية أن يضع كلامه إلا لمن هو أهل لوعيه، ولا يقبل منه بأي حال أن يجهر بما يريده من انتقاد أمام الجميع، فهذا باب مفاسده لا تقارن بمصالحه مطلقاً.