أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات تقريراً استراتيجياً جديداً يتعلق بالعلاقات المصرية مع دولة الاحتلال بعد الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، حيث أشار التقرير إلى أن النخب الصهيونية لم تخف ارتياحها للانقلاب العسكري الذي حدث في مصر. إذ مثَّل موجة ارتدادية في وجه "الربيع العربي"، وقام بضربة قاسية ضد ما يعرف بـ"الإسلام السياسي".
وفي سبيل خدمة المصالح الصهيونية قامت أجهزة الانقلاب بتشديد الحصار على قطاع غزة وتدمير الأنفاق، وبحملة تشويه إعلامية واسعة ضد قوى المقاومة الفلسطينية. كما بعث الانقلاب الحياة في محور "الاعتدال العربي" الذي يدعم مسار التسوية السلمية، والذي يحتفظ بعلاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة. إضافة إلى أن الانقلاب قد عطَّل بلورة الظروف باتجاه إلغاء اتفاق كامب ديفيد بين مصر و دولة الاحتلال. وقد خفف كل ذلك من مخاطر التغيرات، التي قد تحمل طابعاً معادياً، في البيئة الاستراتيجية المحيطة بـ "إسرائيل".
وجاء في التقرير إلى أنه من الصعب ترجيح سيناريو محدّد بشأن السياسة المصرية تجاه دولة الاحتلال في المستقبل القريب، غير أنه من المرجح أن نجاح الانقلاب سيعزز من مظاهر العلاقة بين الطرفين؛ أما سقوطه وعودة الشرعية، فإنه قد يُسفر عن اضمحلال وتراجع تأثير النُّخب ومؤسسات الدولة العميقة التي راهنت على استمرار العلاقة القوية مع الصهاينة والغرب، وقد يفسح المجال نحو دور مصري نشط وفاعل في دعم القضية الفلسطينية وقواها المقاومة، وإن كان من غير المرجح أن يقوم بأخذ إجراءات مباشرة فورية تجاه إلغاء اتفاقية كامب ديفيد.
إلا أنه وفي كل الأحوال فإن الروح الوطنية والعربية والإسلامية للشعب المصري، ودعمه الأصيل لفلسطين، تجعل من الصعوبة بمكان على أي نظام يحكمها تسويق علاقته بـالكيان الصهيوني أو تحسين مستوياتها بدرجة كبيرة.
الانقلاب وتحسين البنية الاستراتيجية
يشير التقرير إلى أن احتفال الصهاينة بالانقلاب على الشرعية في مصر لم يكن مفاجئاً البتة، خصوصاً أن الانقلاب قد حسّن بشكل كبير من البيئة الاستراتيجية لدولة الاحتلال عبر الإسهامات التالية:
أولاً: ضَمِن الانقلاب مواصلة مصر احترام اتفاقية "كامب ديفيد"، التي تُعدُّ أحد أعمدة "الأمن القومي" الصهيوني، نظراً لأنها ضمنت خروج مصر من دائرة العداء مع دولة الاختلال، فقد كان الكثير من الأوساط السياسية والاستراتيجية في الكيان الصهيوني، ينطلق من افتراض مفاده أن تفجر ثورة 25 يناير، وانتخاب مرسي للرئاسة، وصعود "الإسلام السياسي" يُسهم في بلورة ظروف تقود إلى إلغاء "كامب ديفيد".
ثانياً: سماح قادة الانقلاب باستعادة بعض مظاهر الشراكة الاستراتيجية التي كانت قائمة في ظل نظام مبارك، وقد تجلت أهم هذه المظاهر في تشديد الحصار على قطاع غزة، ومحاولات نزع الشرعية عن المقاومة الفلسطينية، من خلال حملات التشويه الإعلامي الممنهج. في حين أن حكم مرسي كان قد خفف من ظروف الحصار، كما حَسَّن من شروط المقاومة من خلال مواقفه الإيجابية في أثناء الحملة العسكرية التي شنتها قوات الاحتلال على القطاع في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، حيث لعبت الديبلوماسية المصرية النشطة دوراً مهماً في وقف العدوان والموافقة الصهيونية على فك الحصار عن القطاع.
ثالثاً: أدى الانقلاب إلى تخفيف الضغوط والتكاليف المتزايدة التي تُثقل الاقتصاد الصهيوني، فقد أدى إلى درجة أعلى من الاطمئنان، حيث سمحت بتخفيف الإجراءات التي وضعها جيش الاحتلال بعد ثورة 25 يناير وبعد انتخاب مرسي؛ والتي نصت على إعداد المزيد من الفرق والألوية العسكرية، والزج بها على الحدود مع مصر أو بالقرب منها، علاوة على إقامة مطارات ومنشآت حربية جديدة، وهذه المشاريع كانت ستكلف الخزانة العامة مليارات الدولارات.
رابعاً: بعث الانقلاب الحياة في "محور الاعتدال العربي"، الذي كان مهدداً بالاندثار؛ وهذا يسمح بتوفير البيئة العربية الداعمة لمسار التسوية السلمية، وبناء علاقات سياسية وتطبيعية محتملة مع الكيان الصهيوني؛ وإيجاد بيئة صديقة للولايات المتحدة، والتي هي الحليف والشريك الأساسي لدولة الاحتلال.
خامساً: إن الانقلاب في مصر شكل ضربة قاسية للثورات والتغيرات في العالم العربي، كما شكل ضربة قاسية لـ "لإسلام السياسي"؛ وهو ما عده الصهاينة مكسباً، حيث كانت دوائر صناعة القرار الصهيوني تخشى من تَغيُّر البيئة الاستراتيجية المحيطة به، من خلال نشوء أنظمة معادية، تعبر عن الإرادة الحرة للإنسان العربي، وتسعى لاستكمال عناصر القوة وبناء حالة نهضوية تؤدي إلى تغيُّر الموازين لصالح الجانب العربي المسلم.
أضاف التقرير إلى أن دولة الاحتلال، دفعت صناع القرار فيها إلى التحرك بشكل فاعل للمساعدة في تثبيت أركان الانقلاب، من خلال دعم عملية تأمين شرعية دولية له، عبر تحرك دبلوماسي ودعائي نشط في أوروبا والولايات المتحدة، والمحافل الدولية. بل والسعي لتوفير دعم اقتصادي له
ويضيف التقرير، إلى أن دولة الاحتلال، ونظراً للدور الذي يلعبه الانقلاب في تحسين بيئتها الاستراتيجية، دفعت صناع القرار فيها إلى التحرك بشكل فاعل للمساعدة في تثبيت أركان الانقلاب، من خلال دعم عملية تأمين شرعية دولية له، عبر تحرك دبلوماسي ودعائي نشط في أوروبا والولايات المتحدة، والمحافل الدولية. بل والسعي لتوفير دعم اقتصادي له، حيث برز تحرك صهيوني لدى كل من الإدارة والكونغرس والنخبة الإعلامية الأمريكية، لإقناعها بعدم قطع المساعدات للجيش.
ومن ناحية أخرى، أشار التقرير إلى أسباب تدفع قيادة الجيش المصري للتقارب مع دولة الاحتلال وخدمة مصالحهم، والتي تتمثل بما يأتي:
أولاً: أنه قد مضى نحو أربعين عاماً على آخر حرب خاضها الجيش المصري (تشرين الأول/أكتوبر 1973)، ولذلك تراجعت جاهزيته للقتال؛ خصوصاً مع تنامي دوره الاقتصادي الذي أصبح يغطي نحو ثلث الاقتصاد المصري، ومع وجود ثقافة جديدة رسختها فترة حكم مبارك تقضي بتولي الضباط العسكريين الكبار المتقاعدين لمناصب مهمة في إدارة الدولة. وقد جعل ذلك الجيش أميل إلى وجود استقرار سياسي، وإلى الإبقاء على خيار التسوية السلمية، والخوف من وقوع السلطة في أيدي قوى حزبية أو اتجاهات، يمكن -حسب رأي قيادة الجيش- أن تورط البلد في حروب أو مغامرات عسكرية أو عداءات تستنزف الجيش كما تستنزف مصر ومواردها، أو قد تشكل خطراً على أمنها القومي.
ثانياً: إن الجيش المصري يعتمد بشكل أساسي على تسليح وتكنولوجيا عسكرية أمريكية وغربية، كما أن التعاون والدعم العسكري الأمريكي لمصر، يعدُّ أمراً حيوياً لصيانة الأسلحة ولتطوير إمكانات الجيش المصري. وهو ما يُعدُّ نقطة ضعف كبيرة في أي مواجهة محتملة مع دولة الاحتلال، بسبب التحالف الاستراتيجي الأمريكي الغربي مع الكيان الصهيوني، الذي يتوقع أن يلبي الاحتياجات الصهيونية في الوقت الذي سيخذل فيه الجانب المصري.
ثالثاً: يسعى قادة الانقلاب لتثبيت شرعيتهم الإقليمية والدولية من خلال الإعلان عن محاربة "الإرهاب"، ومحاربة أو تهميش "الإسلام السياسي"؛ وهو ما يلقى قبولاً صهيونياً وأمريكياً وغربياً؛ وهذا ما يخدم أيضاً قادة الانقلاب في التخلص من خصومهم السياسيين. ولذلك فإن قيام الجيش المصري بتدمير واسع للأنفاق مع قطاع غزة وتشديد الحصار عليها، والقيام بحملات عسكرية واسعة ضدّ التيارات الجهادية في سيناء، أعطى إشارات إيجابية لدولة الاحتلال والنظام الأمريكي، وأن مصالحهما ومصالح القوى الغربية تقتضي دعم الانقلاب وإضفاء الشرعية عليه.
سيناريوهات مستقبل العلاقة بين مصر والكيان الصهيوني
وفي نظرته للعلاقة المستقبلية بين مصر ودولة الاحتلال، أكد التقرير على أن طبيعة العلاقة مرهونة بالسيناريو المستقبلي لمصر، والذي يتمثل بأربعة سيناريوهات:
أولاً: سقوط الانقلاب:
فمن الواضح أن سقوط الانقلاب، وعودة الشرعية، سيؤدي إلى إعادة بناء العلاقة المصرية الصهيونية على أسس جديدة؛ ليس فقط لأن أية جهة تُمثل الإرادة الشعبية الحقيقية، تتولى مقاليد الأمور في القاهرة، قد تتبنى مفهوماً مختلفاً للأمن القومي المصري، يختلف بدرجة أو بأخرى عن المفهوم الذي يستند إليه قادة الانقلاب وحلفاؤهم؛ بل أيضاً لأنه يُتوقع أن يُسفر الانقلاب عن اضمحلال تأثير النخب والتيارات وقوى الدولة العميقة التي راهنت على العلاقة مع الصهاينة والغرب.
سيناريو سقوط الانقلاب سيؤدي إلى تراجع وتدهو العلاقة مع الاحتلال الصهيوني، وسيتم إيقاف العديد من مظاهر الشراكة الاستراتيجية والتعاون الأمني، وفتح صفحة إيجابية جديدة مع قوى المقاومة الفلسطينية
ويبرهن التقرير على ما سبق، بأن القوى المنادية بعودة الشرعية في مصر أدركت سعادة الكيان الصهيوني بالانقلاب، وعدم رغبته بقيام مسار ديموقراطي حقيقي في مصر. وبالتالي، فإن حماية الشرعية وتبني برامج تتوافق مع الرغبة الشعبية الواسعة، قد يؤدي إلى تراجع وتدهور العلاقة دولة الاحتلال. غير أنه من المستبعد أن تبادر أية حكومة تتولى زمام الأمور بعد سقوط الانقلاب إلى إلغاء اتفاقية "كامب ديفيد" مباشرة فور اضطلاعها بشؤون الحكم؛ لعدم جاهزيتها لتحمل كافة التبعات الناتجة عن ذلك. إلا أنه في المقابل، فإن الحكم الجديد سيكون أكثر تصميماً على طلب تعديل بنود الاتفاقية، لا سيما تلك المتعلقة بالملحق الأمني. ومن المتوقع أن الحكم الشرعي العائد سيوقف العديد من مظاهر الشراكة الاستراتيجية والتعاون الأمني وتبادل المعلومات الاستخبارية مع دولة الاحتلال. وعلى الأغلب فإن الشرعية العائدة ستعيد صياغة علاقاتها الإقليمية على أسس لا تتوافق مع المصالح الصهيونية، ومن ذلك فتح صفحة إيجابية جديدة مع قوى المقاومة الفلسطينية. ومن الواضح أن دولة الاحتلال ستعيد صياغة نظريتها الأمنية واستراتيجياتها العسكرية من جديد، كما ستعمل على إعادة بناء موازين القوى داخل المؤسسة الأمنية بما يتناسب مع الواقع الجديد.
ثانياً: بقاء الانقلاب مع تراجع قدرة الجيش والأمن على السيطرة:
وهذا بدوره سيسهم في تفاقم المشاكل الاقتصادية والأمنية، ومظاهر المعارضة السياسية المتزايدة في تعاظم مظاهر الرفض الجماهيري للانقلاب، بشكل قد يقلص من قدرة قادة الانقلاب على بسط سيطرتهم على مقاليد الأمور. ويبين التقرير أن هذا سيناريو تفزع منه دولة الاحتلال على وجه الخصوص؛ لأنه يوفر بيئة مناسبة لعمل تنظيمات مقاومة إسلامية ووطنية قد تستهدف دولة الاحتلال انطلاقاً من سيناء؛ علاوة على أن صناع القرار في تل أبيب يعون أن مثل هذا السيناريو قد يسمح من جديد بتدفق السلاح إلى حركات المقاومة في قطاع غزة عبر الأنفاق أو غيرها. لذا فخطورة هذا السيناريو بالنسبة للكيان الصهيوني لا تكمن فقط في الضرر الأمني، بل أيضاً في غياب عنوان سلطوي واضح في القاهرة يمكن مخاطبته أو ممارسة الضغوط عليه.
ثالثاً: تكريس حكم الانقلاب:
ففي حال تمكن قادة الانقلاب من إرساء حكمهم، وكرسوا شرعية داخلية وإقليمية ودولية لهم، فإن العلاقة بينهم وبين دولة الاحتلال ستتعاظم، بشكل يُقلِّص من حجم الأعباء الأمنية والعسكرية على كاهله". وفي الوقت ذاته، فإن دولة الاحتلال ستحظى ببيئة إقليمية أفضل تساعدها على إملاء مواقفها من التسوية السلمية؛ وفي إيجاد بيئة تطبيعية أفضل مع العالم العربي.
رابعاً: الوصول إلى اتفاق بين الانقلاب والشرعية:
وهذا السيناريو مبني على وصول الطرفين إلى قناعة بعدم قدرة أيّ منهما على فرض برنامجه، دون الوصول إلى مخرج يُجنّب مصر الدخول في الفوضى والانهيار، ويحفظ "ماء الوجه" للطرفين. وهذا قد يدخل البلد في مرحلة انتقالية تتباطأ فيها عجلة التطبيع مع دولة الاحتلال، وتَخِفُّ فيها الحملات والإجراءات الأمنية والسياسية والإعلامية تجاه المقاومة الفلسطينية، وضد الأنفاق، وتجاه قطاع غزة؛ وفي الوقت نفسه تتراجع احتمالات اتخاذ أية إجراءات حادة تجاه الكيان الصهيوني، بانتظار استقرار نظام الحكم الجديد في مصر.
وفي ختام التقرير، أوصى مركز الزيتونة بما يأتي:
1- توقيف حملات التشويه الإعلامي والتحريض ضد الشعب الفلسطيني وضد قوى المقاومة التي تشنها جهات معينة في الإعلام المصري.
2- مطالبة الاتجاهات والأحزاب القومية والوطنية واليسارية التي تساند الانقلاب بمواقف قوية وواضحة تجاه دولة الاحتلال، وتجاه دعم المقاومة الفلسطينية، ورفع الحصار عن قطاع غزة.
3- التأكيد على عدم التدخل الفلسطيني في الشأن الداخلي المصري.
4- التأكيد على ألا يستفيد الكيان الصهيوني من الأوضاع والصراعات الداخلية في الأقطار العربية بما ينعكس سلباً على القضية الفلسطينية.
5- التأكيد على ألا تستغل دولة الاحتلال حالة عدم الاستقرار والصراعات الداخلية في الأقطار العربية لتحقيق المزيد من المكاسب السياسية، ولفرض هيمنتها على المنطقة، وللمضي في برامج تهويد القدس وباقي فلسطين، ولفرض شروطها في مشروع التسوية.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات