أصدر مركز الجزيرة للدراسات دراسة تعالج الموقف التركي من مصر بعد الانقلاب العسكري في الثالث من تموز يوليو الماضي، وانعكاسات مواقف كل من تركيا ومصر على العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين.
وأشارت الدراسة التي أعدها الباحث علي حسين باكير، إلى أن تركيا اعتبرت ما جرى في مصر انقلاباً عسكريا، انطلاقاً من ثلاثة معطيات:
1- أن ما جرى في مصر ليس هيناً ولا صغيراً على المستوى الإقليمي ولا الدولي، كما أن مواقف الدول قد تباينت تجاه ما جرى في مصر، بين داعم ومؤيد، وملتزم بالصمت حفاظاً على مصالحه، في حين أن البعض صرح برفضه لما جرى واعتبره انقلاباً كما حصل مع الاتحاد الإفريقي. لذلك أبدت تركيا رأيها بكل وضوح والمتمثل بأن تغيير نتائج الانتخابات بهذه الطريقة هو انقلاب عسكري، بغض النظر عمن هو موجود في السلطة ومن هو موجود في المعارضة.
في نظر الأتراك، فإن التاريخ يكاد يكرر نفسه في مصر، فكما حصل مع مرسي، كان الجيش التركي قد أطاح في العام 1960 بـ«عدنان مندريس»، أول رئيس حكومة منتخب ديمقراطيًا في الجمهورية التركية وقام بمحاكمته وإعدامه مع اثنين من وزرائه.
2-إن تركيا تنظر إلى الأحداث المصرية من خلال عدسة التاريخ التركي نفسه؛ ففي تركيا لعب الجيش دورًا سيئًا للغاية في الحياة السياسية خلال عقود طويلة، ورغم الشعبية التي يتمتع بها الجيش إلا أن التدخل في السياسة كان عاملاً سيئًا ساعد على تدهور وضع البلاد إلى مستوى غير مسبوق خاصة في فترات الانقلابات العسكرية التي بلغت مستوى قياسيًا في أعوام 1960، و1971، و1980، و1997. وفي نظر الأتراك، فإن التاريخ يكاد يكرر نفسه في مصر، فكما حصل مع مرسي، كان الجيش التركي قد أطاح في العام 1960 بـ«عدنان مندريس»، أول رئيس حكومة منتخب ديمقراطيًا في الجمهورية التركية وقام بمحاكمته وإعدامه مع اثنين من وزرائه. ولذلك فإن النظرة إلى ما يحدث في مصر يتم دائمًا من العدسة التركية.
3- إن السكوت على ما جرى في مصر قد يفسر بشكل خاطئ في الداخل التركي فيشجع المعارضة التركية وأيضا المخلصين لشبكة أرغينيكون الانقلابية ربما على محاولة القيام بشيء مشابه، خاصة أن حزب العدالة والتنمية كان قد نجا بصعوبة في عام 2007 من محاولات لقطع طريق السلطة عليه بشكل غير شرعي.
وبينت الدراسة أن موقف تركيا الواضح مما جرى في مصر، أدى إلى تدهور العلاقة بين البلدين، حيث قابل الموقف التركي تصعيداً مصرياً تضمن إثارة السلطات المصرية للغرائز القومية من جهة، واستغلال الهجمة الشرسة التي تتم للربط المنهجي بين الإخوان في مصر والحكومة التركية فيما تسميه سلطة الانقلاب المصرية التنظيم العالمي للإخوان.
وتجلى تدهور العلاقات بين البلدين خصوصاً عندما أعلنت القاهرة في بيان للخارجية المصرية في 23 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عن اعتبار السفير التركي شخصًا غير مرغوب فيه وعن تخفيض العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لمرتبة القائم بالأعمال بسبب ما قالت: إنه "موقف غير مقبول من تركيا في تحريض المجتمع الدولي ضد المصالح المصرية، وفي دعمها لاجتماعات مجموعات تسعى إلى حالة من عدم الاستقرار في البلاد، بالإضافة إلى الإدلاء بتصريحات مهينة"، وقد ردت تركيا بالمثل.
انعكاسات سياسية
وأوضحت الدراسة أن تدهور العلاقة بين كل من تركيا ومصر، ترك انعكاسات وآثاراً سياسية على كلا من البلدين.
فعلى المستوى التركي نجد أنها خسرت مصدرًا مهمًا لمتابعة مجريات الأحداث داخل مصر (على الرغم من تواجد القائم بالأعمال)، وتخفيض العلاقات الدبلوماسية يعني أن إعادتها إلى سابق عهدها سيتطلب تغيير الظروف التي أوجدتها؛ وهو أمر غير محدد بوقت معين سيما في ظل التوتر القائم بين البلدين.
كما أن التقديرات التركية تقول: إن ذلك لن يؤثر على المدى البعيد نظرًا لعمق العلاقة بين الشعبين؛ وهو ما يُفهم منه أن المعطيات الحالية في مصر لن تتيح استمرار هذه السلطات لأجل طويل إذا ما استمرت في نفس السياسات. وقد عبّر عن هذا التوجه رئيس الجمهورية التركية وكذلك مستشاره اللذان أشارا إلى تمني عودة العلاقات بين البلدين في وقت سريع وإلى عمق العلاقة بين الشعبين التركي والمصري في توجه واضح للفصل بين سلطة الانقلاب المصرية والشعب المصري. لكن إذا ما نظرنا إلى القرار الأخير من زاوية أوسع وهي تغير النظام المصري برمته بعد الإطاحة بمرسي، نستطيع أن نقول: إن مصر مهمة بالنسبة إلى تركيا إقليميًا، وأنه مع هذا القرار فقدت تركيا البوابة المصرية إلى العالم العربي إلى أجل غير معروف. لكن انعكاسات ذلك إقليميًا لا تبدو كبيرة خاصة في ظل الجهود الأميركية والإيرانية المبذولة مؤخرًا لاجتذاب تركيا إلى ساحة الترتيبات الإقليمية المرتقبة.
أما على المستوى المصري فتتجلى الانعكاسات السياسية بوضع سلطة الانقلاب المصرية في حرج شديد في حال تكررت المواقف التركية أولاً، وأيضًا في حال اتبعت دول أخرى نفس النهج؛ إذ سيكون عليها إما السكوت والظهور بمظهر الضعيف غير القادر على اتخاذ أي قرار من شأنه إسكات هذه الانتقادات، وإما اتخاذ قرار مماثل للقرار المتخذ ضد تركيا وبالتالي زيادة مأزق السلطات المصرية في وقت هي في أمسّ الحاجة فيه إلى علاقات مع دول مهمة إقليمية ودولية.
لا يعترف بالحكومة الانقلابية الحالية سوى بضعة دول إقليمية، أما الدول الأخرى فهي تتعامل معها بحكم الواقع المؤقت لا الاعتراف الشرعي. و علاقاتها مع القوى الكبرى ليست جيدة ولا متقدمة. أمّا إقليميًا فالمؤتمر الإفريقي لا يعترف بها، وعلاقاتها مع إيران مقطوعة عمليًا وعلاقاتها مع تركيا الآن تدهورت إلى أقصى حد
كما أنه من المتوقع أن يؤدي هذا القرار إلى زيادة عزلتها الإقليمية والدولية التي تعاني منها بعد الانقلاب؛ إذ لا يعترف بالحكومة الحالية صراحة سوى بضعة دول إقليمية، أما الدول الأخرى فهي تتعامل معها بحكم الواقع المؤقت لا الاعتراف الشرعي. و علاقاتها مع القوى الكبرى ليست جيدة، ولا متقدمة لا مع واشنطن ولا مع موسكو. أمّا إقليميًا فالمؤتمر الإفريقي لا يعترف بها، وعلاقاتها مع إيران مقطوعة عمليًا وعلاقاتها مع تركيا الآن تدهورت إلى أقصى حد، ولم يبقَ هناك أحد معها سوى المملكة العربية السعودية التي تعاني مؤخرًا من تجاهل الولايات المتحدة لها في مختلف الملفات الإقليمية وأبرزها سوريا والنووي الإيراني.
إضافة لما سبق فإن هذا القرار سيزيد من ضعف دور مصر الإقليمي، على اعتبار أن علاقاتها مع اثنتين من أكثر الدول الإقليمية أهمية من حيث الدور والنفوذ، وهما إيران وتركيا ليست سليمة. فمصر الآن خارج الملفات الإقليمية المهمة كافة، في سوريا وفي عملية السلام وفي ملف المصالحة بين فتح وحماس وفي البرنامج النووي الإيراني، ليس لها أي دور أو تأثير عملي، في وقت يتم فيه إعادة رسم الأدوار الإقليمية لعدد من الدول بما يتناسب ومخرجات التطاحن الإقليمي والدولي الحاصل إثر انفجار الثورات العربية.
انعكاسات اقتصادية
وفيما يتعلق بالجوانب والآثار الاقتصادية، أشارت الدراسة إلى أن تدهور العلاقات بين البلدين سيؤثر تأثيراً سلبياً على الصعيد الاقتصادي من حيث حجم التبادل التجاري بين البلدين والاستثمارات التجارية التركية في مصر، لكن ذلك لن يؤثر على تركيا بالقدر نفسه الذي يؤثر فيه على مصر؛ إذ يبلغ حجم الاقتصاد التركي حوالي 768 مليار دولار، وحجم التجارة الخارجية حوالي 400 مليار دولار، وهي أرقام ضخمة مقارنة بنظيرتها المصرية من جهة وحجم التبادل التجاري بين البلدين.
أما مصر، فوفقًا لأرقام البنك الدولي، يبلغ اقتصادها 257 مليار دولار؛ وهذا يعني أنه يساوي تقريبًا ثلثي الاقتصاد التركي، وعليه فإن أي تضرر اقتصادي في العلاقات الثنائية سيكون وقعه أكبر على الاقتصاد المصري خاصة أنه يعاني منذ الانقلاب العسكري من شبه توقف في أغلب القطاعات الاقتصادية المهمة ناهيك عن انخفاض شديد في معدلات الاستثمار وارتفاع تكاليف التأمين على الدين؛ حيث تصارع الحكومة المصرية لدفع 4 مليارات دولار كواردات، فيما تنفق حوالي 1.5 مليار من الاحتياطي لديها شهريا، في ظل توقعات أن يبلغ العجز في الحساب الجاري لهذه السنة بعد الانقلاب 5 مليارات دولار.
إن سلطة الانقلاب التي تراهن على أموال بعض الدول الخليجية، استلمت أكثر من نصف الوعود المالية (7 مليار من أصل 12 مليار دولار) دون أن يكون لها تأثير مهم على وضع الاقتصاد المصري أو المواطن المصري
إضافة إلى هذا فإن سلطة الانقلاب التي تراهن على أموال بعض الدول الخليجية، استلمت أكثر من نصف الوعود المالية (7 مليار من أصل 12 مليار دولار) دون أن يكون لها تأثير مهم على وضع الاقتصاد المصري أو المواطن المصري؛ وهو ما يعني أنها ستكون بحاجة إلى كل دولار استثمار من الخارج، عكس تركيا التي تحتل المرتبة الـ 13 عالميًا في اجتذاب الاستثمارات الخارجية المباشرة.
وهذا ما يفسر على ما يبدو اشتباك السلطات المصرية مع أنقرة على الصعيد السياسي دون أن يشمل ذلك المنحى الاقتصادي، ليس حرصًا على العلاقة بين البلدين، بقدر ما هو حرص على بقاء العلاقات التجارية والاستثمارات التركية في وقت أحوج ما تكون إليه السلطات المصرية إلى استثمارات خارجية ودعم اقتصادي. ويُعد الالتزام الرسمي المصري باستمرار العلاقات الاقتصادية والاستثمارات التركية في مصر فور الإعلان عن تخفيض العلاقات الدبلوماسية مؤشرًا على ذلك؛ إذ أعلن وزير التجارة والصناعة المصري منير فخري عبد النور سابقًا أن "الوزارة ترحب بكل الاستثمارات التركية، سواء القائمة أو المستقبلية، كما أنها لن تتوانى عن حل أية مشكلة تواجه هذه الاستثمارات". لافتًا إلى حرص الحكومة على الفصل بين العلاقات الاقتصادية والمواقف السياسية.
في المقابل، هناك مصلحة تركية بلا شك في استمرار العلاقات الاقتصادية والاستثمارية مع مصر؛ لأن ذلك يسهّل عودة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بشكل سريع فيما بعد إذا تمهدت الأرضية اللازمة لها، كما أن الأزمات الإقليمية أظهرت أن توتر علاقات أنقرة السياسية مع بعض الدول لا يدفعها إلى استخدام سلاح المال بشكل رجعي كما تفعل بعض الدول العربية لأن ذلك يعطي مؤشرًا سلبيًا على عدم وجود نضج كاف؛ وهو ما يدفع المستثمرين إلى الإحجام عن الاستثمار في مثل هذه المناطق. لكن من دون شك فإن التدهور في العلاقات سيؤدي إلى إيقاف تركيا لاستثماراتها المستقبلية هناك والمقدرة بحوالي 5 مليار دولار.
وختمت الدراسة القول بأنه من الواضح أن تركيا تعتبر المرحلة الحالية من التوتر بين البلدين مرحلة عابرة، بانتظار عودة الديمقراطية والمسار الديمقراطي إلى مصر. فيما لا تعطي سلطة الانقلاب المصرية أية مؤشرات على توقيت عودة هذه العلاقات إلى طبيعتها من الناحية السياسية على الرغم من حرصها على استمرارها من الناحية الاقتصادية، وهو ما يعني أن السلطات المصرية تنتظر اعترافًا تركيًا بشرعيتها كأمر واقع وهو ما لن يحصل على الأرجح.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- مركز الجزيرة للدراسات