هناك ما يدلل على أن السلطة الفلسطينية باتت تلعب دوراً مركزياً في تعزيز المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس المحتلة من خلال دورها المهم والحاسم في تحسين البيئة الأمنية للمستوطنات، بحيث أصبحت مناطق جذب لقطاعات جديدة من الإسرائيليين.
إن شراكة السلطة الفلسطينية لإسرائيل في الحرب التي تشنها على حركات المقاومة في الضفة الغربية، والمتمثلة في التعاون الاستخباري والتنسيق الأمني، ودور أجهزة حكومة رام الله الأمنية الكبير في تجفيف منابع المقاومة الفلسطينية قد أسهم بشكل واضح في تعزيز مستويات الشعور بالأمن الشخصي والجماعي لدى المستوطنين في الضفة الغربية والقدس، وهو ما أقنع بالتالي جماعات جديدة من اليهود بالقدوم للاستيطان في الضفة الغربية.
ويكفي هنا الإشارة فقط إلى الاستنتاج الذي انتهى إليه التحقيق الواسع الذي نشره الصحافي الإسرائيلي يهوشوع برينر، في موقع "وللا" الإخباري في 20-9-2013م، بأن تعاون السلطة الفلسطينية الأمني في إسرائيل قد حول المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية إلى "جنة عدن" لكثير من اليهود، وشجعهم على استغلال الفرص الكبيرة المتاحة لهم هناك.
وحسب برينر، فإن الدافعية للاستيطان في أرجاء الضفة الغربية قد تعاظمت خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة بسبب الجهود الحاسمة التي بذلتها الأجهزة الأمنية التابعة لسلطة رام الله في القضاء بشكل شبه مبرم على بنى المقاومة في الضفة الغربية؛ وهذا ما قلص مستويات الخوف لدى الإسرائيليين من الإقامة في الضفة الغربية.
الإسهام في تهويد الضفة
إن أوضح نتائج تحسن البيئة الأمنية في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية بفضل جهود السلطة الفلسطينية هو انضمام مزيد من العلمانيين اليهود للمشروع الاستيطاني.
فمنذ احتلال الضفة الغربية عام 1967، كان معظم اليهود الذين يفدون للاستيطان في أرجاء الضفة الغربية هم من أتباع التيار الديني الصهيوني، والذين تحركهم قناعات دينية أيدلوجية، وقد حرص العدد القليل من العلمانيين الذين قدموا للاستيطان في الضفة أن يقيموا في مستوطنات تقع بالقرب من الخط الأخضر، الفاصل بين حدود الضفة الغربية وإسرائيل، وهي المستوطنات التي تصنف على إنها "الأكثر أمناً"، بسبب بعدها النسبي عن التجمعات السكانية الفلسطينية.
لكن تحسن الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية وتقليص المخاطر الناجمة عن العمليات التي تنفذها حركات المقاومة ضد مستوطنات الضفة الغربية، عبر شن حملات أمنية تشارك فيها الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة وإسرائيل ضد البنى التنظيمية لحركات المقاومة، قد أسهم في إقناع قطاعات من العلمانيين اليهود للانتقال للإقامة في الضفة الغربية لاستغلال المزايا الاقتصادية الهائلة التي تقدمها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة للمستوطنين.
فعلى سبيل المثال دللت معطيات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي على أن الأزواج اليهودية الشابة التي تقطن في المناطق التي تعاني ضائقة اقتصادية داخل إسرائيل، سيما مدن التطوير والأحياء الشعبية في المدن الكبرى باتت تتجه للاستقرار في مستوطنات الضفة الغربية بسبب مزاياها الاقتصادية، والمتمثلة في قروض السكن الميسرة جداً، والتخفيضات الضرائبية، وفرص العمل، وجودة التعليم، والعلاوات في الأجور... وغيرها من مزايا.
لقد كانت هذه المزايا قائمة طوال الوقت، لكن الجديد هو تحسن البيئة الأمنية في أرجاء الضفة الغربية بفعل جهود السلطة الفلسطينية، وهذا ما جعل العلمانيين يتوجهون للإقامة في مستوطنات في عمق الضفة الغربية، بل وفي مستوطنات نائية.
إن التحول الثاني المرتبط بدور السلطة الفلسطينية في تحسين أوضاع المستوطنين الأمنية هو اكتشاف أتباع التيار الديني اليهودي الأرثوذكسي (الحريدي) مزايا الاستيطان في الضفة الغربية.
فبخلاف التيار الديني الصهيوني، فإن المرجعيات الدينية للتيار الديني الحريدي ظلت تفضل بشكل تقليدي إقامة أتباعها في تجمعات كبرى، مثل القدس، ومدينة "بني براك"، الواقعة إلى الشمال الشرقي من تل أبيب، وذلك من أجل ضمان تقليص مستوى الاختلاط بالعلمانيين.
وقد أدى تحسن الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية إلى اكتشاف مرجعيات التيار الحريدي مزايا الإقامة في المستوطنات هناك، حيث إن هذه المستوطنات توفر بيئة منعزلة لأتباع هذا التيار، تسمح لهم بممارسة أنماط حياتهم الدينية والاجتماعية الخاصة، علاوة على المزايا الاقتصادية.
وقد كانت النتيجة أن حركتي "شاس" و "يهدوت هتوارة" الحريدتين قد استغلتا مشاركتمها في الحكومات الإسرائيلية الأخيرة وقامتا بالدفع نحو بناء أربع مدن للحريديم في مناطق مختلفة من الضفة الغربية، وهي: كريات سيفر، عموانئيل، بسجات زئيف، وموديعين.
إن النتيجة الرئيسة لانضمام العلمانيين والحريديم للمشروع الاستيطاني هو زيادة عدد المستوطنين في الضفة الغربية بنسبة 5% خلال عام 2012م فقط، بحيث أن مستوى الزيادة في عدد المستوطنين اليهود في الضفة تبلغ الآن ثلاثة أضعاف النسبة داخل إسرائيل، كما تشير معطيات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي. أي أن السلطة الفلسطينية تسهم في الواقع في تهويد الضفة الغربية عبر تواصل التعاون الأمني مع الاحتلال.
تعزيز اقتصاديات المستوطنات
لم يسهم تعاون السلطة الفلسطينية الأمني ففط في تحويل المستوطنات إلى بيئة جاذبة لليهود، بل إنه بات يلعب دوراً مركزياً في تعزيز اقتصاديات المستوطنات.
ويكفي أن نشير هنا إلى ما جاء في التحقيق الذي نشره موقع "وللا" الإسرائيلي بتاريخ 20-9-2013م، والذي يشير إلى إن المستوطنات اليهودية أصبحت تحتكر نسبة كبيرة من السياحة الداخلية، بفعل الدور الذي تلعبه السلطة الفلسطينية في تحسين البيئة الأمنية للمستوطنات.
وبفضل تحسن البيئة الأمنية تحول المجمع الصناعي "بركان"، القريب من مستوطنة "أرئيل"، شمال غرب الضفة الغربية إلى واحد من أهم التجمعات الصناعية في إسرائيل، وتوسعت مجالاته، حيث أن المزيد من المستثمرين اليهود باتوا يتجهون لتدشين مصانع في المنطقة؛ مع العلم أن هذا التجمع قد أصابه الشلل أثناء اندلاع انتفاضة الأقصى.
مكافأة المستوطنين على جرائمهم
بعد مقتل اثنين من جنود الاحتلال في الخليل وقلقيلية وإصابة إحدى المستوطنات بالقرب من رام الله، شنت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية مؤخراً حملة اعتقالات واسعة النطاق في صفوف قادة وعناصر حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
وعلى الرغم من أنه لم يثبت أية صلة بين هذين التنظيمين وهذه الحوادث، إلا أن السلطة الفلسطينية وبناء على إملاءات إسرائيل شنت هذه الحملة خشية أن يكون قد تشكل تنظيم مقاوم جديد في الضفة الغربية.
إن ما يثير المرارة في سلوك السلطة الفلسطينية حقيقة أنها تبدي كل هذا الحرص على أمن المستوطنين اليهود في الوقت الذي تعاظمت وتيرة الجرائم التي ينفذونها ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، والتي تتراوح بين الاعتداءات على الأهالي ومهاجمة بيوتهم وإحراق مساجدهم؛ حيث بلغ عدد المساجد التي أحرقت حتى الآن 12 مسجداً؛ ناهيك عن قيامهم بتجريف الكروم واقتلاع الأشجار، وتسميم الآبار، بناءً على فتاوى أصدرها حاخامات على صلة وثيقة بالائتلاف الحاكم.
فمثلاً أصدر الحاخام دوف ليئور فتوى تبيح للمستوطنين سرقة زيتون الفلسطينيين، وليئور هو المرجعية الدينية لحزب "البيت اليهودي"، ثالث أكبر الأحزاب في الائتلاف الحاكم الذي يقوده نتنياهو.
والمفارقة ذات الدلالة هي حقيقة أن 90% من الشكاوى التي يرفعها الفلسطينيون في الضفة الغربية ضد المستوطنين يتم إغلاقها.
هذا في الوقت الذي تدفع فيه قيادة السلطة الفلسطينية ضريبة كلامية عبر التنديد بجرائم المستوطنين، بينما هي تفعل كل ما في وسعها من أجل تأمينهم.
إغراء الصهاينة بالتطرف
لقد دلل تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني على أن النخب الإسرائيلية الحاكمة لا تبادر إلى تبني الحلول السياسية عندما يكون هناك استقرار أمني.
فمنذ العام 1967م، وحتى اندلاع الانتفاضة الأولى أواخر عام 1987م، كانت إسرائيل تستخف بكل المبادرات الداعية لحل الصراع مع الفلسطينيين؛ وفقط بعد اندلاع الانتفاضة وتكبد المجتمع الصهيوني أثمان باهظة، تعاظمت الدعوات داخل إسرائيل لحل الصراع سلمياً.
وهذا ما يحدث الآن، حيث أنه بفضل الهدوء الأمني توقفت عمليات المقاومة بشكل شبه تام بفضل تعاون السلطة الفلسطينية في تعقب قادتها وعناصرها، وهذا ما أسهم في إضفاء مزيد من التطرف على مواقف الحكومة الإسرائيلية.
وقد وجد هذا التطرف تعبيره الأوضح في خطاب رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتيناهو مؤخراً في جامعة "بار إيلان"، والذي يعتبر أكثر الخطابات يمينية وتطرفاً التي يلقيها منذ أن بدأ حياته السياسية.
لقد أنذر نتنياهو السلطة بأن الاعتراف بيهودية إسرائيل هو شرط لانجاز أي تسوية، مع العلم أن قبول الفلسطينيين بذلك يعني تنازلهم المسبق عن حق العودة.
وإلى جانب ذلك، فإن نتنياهو يطالب السلطة بالموافقة على كل الترتيبات التي ترى إسرائيل أنها تحقق أمنها.
وعلى الرغم من أن نتنياهو لم يقدم تفاصيل حول ماهية طلبه هذا، إلا أن وزير الإسكان الصهيوني أوري أرئيل قد أوضح أن الترتيبات الأمنية تعني عملياً إبقاء السيطرة الإسرائيلية على كل الضفة الغربية (موقع القناة السابعة،2-10-2013م).
وفي الوقت ذاته، فإن إسرائيل تواصل بناء المستوطنات في جميع أرجاء الضفة الغربية وتشرف على دفع مشاريع تهويد القدس قدماً، بهدف انجاز مشروع "القدس الكبرى"، الهادف إلى زيادة عدد اليهود في المدينة المقدسة ومحيطها إلى مليون نسمة.
لقد وصل الأمر ببعض وزراء نتنياهو ونواب حزبه إلى حد أن أصبح كل ما يعنيهم هو تنظيم وقيادة عمليات مداهمة للمسجد الأقصى بغرض استفزاز الفلسطينيين ومحاولة إرساء حقائق جديدة في أولى القبلتين، بل إن الوزير أوري أرئيل خالف قرار حكومته وقام بالصلاة فوق المسجد الأقصى، في خطوة قصد منها دعوة بقية اليهود للاقتداء به.
وفي الوقت ذاته، فإن نواب من الائتلاف الحاكم يعكفون على صياغة مشروع قانون يدعو إلى تقسيم أوقات الصلاة في المسجد الأقصى بين اليهود والمسلمين، بحيث يحظر على المسلمين دخول المسجد خلال صلوات اليهود، كما هو الحال عليه في المسجد الإبراهيمي في الخليل.
لقد بات في حكم المؤكد أن تعاون السلطة الفلسطينية الأمني مع إسرائيل يسهم في تهويد الضفة الغربية ويعزز المشروع الاستيطاني والتهويدي ويغري الصهاينة بتبني مواقف أكثر تطرفاً من الصراع، فهل يعقل أن عباس الذي يدعي تمثيل الشعب الفلسطيني هو الذي يسهم أكثر من أي طرف آخر في تصفية قضيتهم!!.