تعتبر مسألة سرية التنظيم من المسائل التي دائماً ما يرددها المعارضون للحركات الإسلامية، حيث يعتبرونها مأخذاً من المآخذ وطعناً في شرعية وجود هذه الحركات. ولم يقتصر الأمر على المعارضين فحسب، بل باتت هذه المسألة محل جدل كبير، خصوصاً بعد الربيع العربي، وما رافقه من كشف لانتماء الكثير من أبناء الحركات الإسلامية وتوجهاتهم، حيث يرى البعض أن مسألة سرية التنظيم لم يعد لها أثر كبير، وباتت نوعاً من التكلف خصوصاً في ظل وسائل التواصل الحديثة، وسهولة تبادل المعلومة، وتناقل الأفكار، مما يعني جهراً بالانتماء والتوجه لدى أدنى تأمل وتدبر.
وفي المقابل يصر البعض على سرية التنظيم كواحد من أساليب ديمومة عمل الحركات الإسلامية والمحافظة عليها، خصوصاً في ظل ما تتعرض له هذه الحركات من قمع واضطهاد في بعض الدول من قبل الأنظمة الحاكمة، أو الاحتلال فيها.
مفاهيم أولية..
مما لا شك فيه أن سرية التنظيم لا تعني بأي حال من الأحوال أن تكون الدعوة بكاملها متصفة بالسرية، بحيث لا تظهر على الأرض، ولا توجه الناس، ولا يمتد خيرها للآخرين. وليس المقصود بالدعوة هنا بيان أسرار التنظيم، وكشف أفراده، وإنما المقصود بيان الأفكار والرؤى، وإرشاد الناس لما فيه خيرهم وصلاحهم.
وقد يستغل البعض سرية التنظيم للتغطية على الكسل والتقاعس عن الواجب الدعوي، وإصلاح الناس وإرشادهم إلى الخير، وهذا يتنافى مع المقصود الحقيقي للدعوة والحفاظ عليها.
فسرية الدعوة، تعني جعل الدعوة متقوقعة ومحصورة على مجموعة أفراد ينبذون المجتمع، ويتركونه فريسة سهلة لأصحاب الأفكار والتوجهات التي قد تكون مخالفة للمنهج الدعوي المستمد من التشريع الإسلامي، مما يعود على أصل الدعوة ووجودها بالنقض والإبطال.
لا تعني سرية التنظيم عدم اطلاع الأفراد على الرؤى والسياسات واللوائح الخاصة به، وآليات اتخاذ القرار والتعيين لأفراده، إذ لا تتنافى هذه الأمور مع الحفاظ على مصالح الدعوة واستمرارها
ولا تعني سرية التنظيم عدم الكشف عن بعض الأفراد الذين ينتمون للتنظيم، سواء أكانوا يحتلون مواقع قيادية فيه، من أجل إدارة العلاقة مع الدولة أو باقي الفصائل الأخرى، وبيان رؤية التنظيم وأفكاره وتوجهاته للناس كافة. ولا تتنافى السرية أيضاً مع التعريف ببعض أفراد التنظيم في بعض المواقع، كالنقابات، والمجالس النيابية وغيرها.
ومن ناحية أخرى، لا تعني سرية التنظيم عدم اطلاع الأفراد على الرؤى والسياسات واللوائح الخاصة به، وآليات اتخاذ القرار والتعيين لأفراده، إذ لا تتنافى هذه الأمور مع الحفاظ على مصالح الدعوة واستمرارها، بل من المطلوب أن لا يشعر الفرد بأنه يعيش في تنظيم مليء بالدهاليز والأمور الغامضة والمخفية، والتي تؤثر سلباً على العطاء الدعوي والحماسة والدافعية الخاصة بالأفراد.
وقد يحتج البعض على هذا بأن السرية في معرفة هذه الأمور تتمثل بالمحافظة على التنظيم من الاختراق وكشف الأسرار، والحقيقة أن هناك فرقاً بين معرفة الآليات، والتعرف على الأسماء الحقيقية، التي يمكن أن يؤدي الكشف عنها إلى مشاكل جمة يتضرر على إثرها التنظيم وتؤثر على عمله ووجوده.
مبررات سرية التنظيم
من المعلوم أن الحركات الإسلامية لم تنشأ إلا بعد سقوط الخلافة الإسلامية، وضياع بلاد المسلمين ومقدساتها، وسيطرة المحتلين والمستبدين عليها، وبالتالي فإن إنشاءها كان لهدف واضح، هو استعادة الحكم الإسلامي الذي ضاع من الأمة بعد سقوط الخلافة، وهذا هو الدافع الحقيقي لتأسيس الإمام البنا لجماعة الإخوان المسلمين في مصر وفروعها في باقي الدول العربية والإسلامية. بل قد يكون إنشاء التنظيم لهدف أكثر خصوصية بالإضافة إلى الهدف العام كحال حركة حماس في فلسطين، ومواجهتها للاحتلال الذي استمر عقوداً عديدة.
وبناء على ذلك، فإن وجود الإخوان المسلمين –على سبيل المثال- في أكثر من دولة، يعني وجود تفاوت في طبيعة التعامل معها، فبعض الدول تتعامل مع الجماعة بالقمع والقتل والسجن، كما جرى في فلسطين، وما يجري في سوريا ومصر وغيرها. وهذا يعطي مبرراً قوياً لاستخدام سرية التنظيم للحفاظ على وجود الجماعة ودورها. في حين أن بعض الدول تعامل الجماعة بصورة من الحرية بحيث تسمح لها بأداء دورها وأنشطتها بكل أريحية، ودون قيود أو ضغوطات.
ورغم الاختلافات بين الصورتين، نقر بأن مسألة تعامل الحكومات مع الحركات الإسلامية هي مسألة نسبية تختلف من دولة لأخرى، وفي الوقت نفسه نقر بأن مسألة السرية ليست مسألة ثابتة بحيث تعتبر جزءاً أصيلاً لا يتغير مع مرور الزمن والوقت، إلا أننا لابد أن نؤكد على بعض النقاط التالية فيما يتعلق بهذا الأمر:
الصراع بين الإسلاميين وأنظمة الحكم ما زال مستمراً رغم اختلاف حدته وصورة قمع السلطة لأفراد التنظيم، وهذا الأمر لا بد أن يدركه أفراد التنظيم بشكل جيد، ولابد للتنظيم أن يمتلك نوعاً من السرية للحفاظ على نفسه حال انقلاب الدولة عليه
1- الصراع بين الإسلاميين وأنظمة الحكم ما زال مستمراً رغم اختلاف حدته وصورة قمع السلطة لأفراد التنظيم، وهذا الأمر لا بد أن يدركه أفراد التنظيم بشكل جيد، ولابد للتنظيم أن يمتلك نوعاً من السرية للحفاظ على نفسه حال انقلاب الدولة عليه، والتاريخ شهد الكثير من الحالات التي انقلبت فيها العلاقة بين الدولة والحركات الإسلامية. لذا الأصل أن لا تكون كافة الأوراق مكشوفة، وإلا كان من السهل على الدولة أن تزج كل أفراد التنظيم في السجون، وبالتالي تلحق به أذى كبيراً قد لا يتعافى منه لسنوات طويلة.
2- لا توجد فائدة حقيقية من بيان أسماء أفراد التنظيم للعلن، وأماكن لقاءاتهم، والمهام الموكلة بكل فرد منهم، وكأنهم عاملون في شركة أو مؤسسة. بل الفائدة الحقيقة تتمثل بعمل أولئك على الأرض، وإنجازاتهم التي تصب في مصلحة الجماعة بشكل عام. فالناس لا ينظرون إلى الأسماء بقدر ما يهمهم الأفعال والإنجازات.
3- سرية التنظيم تعطي حرية أكبر في طرح الأفكار ومناقشتها، واتخاذ القرارات دون تدخلات أو ضغوطات، ولنا أن نتخيل النتائج المترتبة حال الإعلان عن كل الاقتراحات والأفكار والمناقشات، إذ يترتب على ذلك استغلال لبعض الخلافات في وجهات النظر من قبل المغرضين والانتهازيين، لشق الصف، والضرب على وحدة التنظيم وانسجامه، ناهيك عن تكبير بعض الأمور الصغيرة في سبيل ضرب الجماعة.
إن أية شركة أو مؤسسة يوجد لها قدر معين من السرية والكتمان في سياساتها الداخلية وقراراتها، حتى تحقق النجاح مقابل منافسيها، فكيف لا نحرص عليه في جماعة تواجه سلطة مستبدة، أو احتلال غاشم!!
4- إن السرية تعطي الحركة ديمومة في الاستمرار والإنجاز، بالإضافة إلى أنها تحمي التنظيم أحياناً من بطش السلطة، خصوصاً حينما لا يعلم عددهم، وأماكن لقاءاتهم وانتشارهم، مما يعطي التنظيم مرونة في العمل، وقوة على الأرض.
5- صعوبة معالجة المشكلات الداخلية في التنظيم، خصوصاً ما يتعلق بالأمور التربوية والفكرية، مما يعني استغلال هذه الأمور في تشويه صورة الجماعة والإساءة لسمعتها حال الجهر بها.
ختاماً، لابد أن نؤكد على أن مثل هذه المسائل لا تتخذ من قبل فرد واحد، بل هي مسألة محورية في غاية الأهمية تمس كل أفراد التنظيم، وإن المخاطر التي تنجم عن عدم السرية تمس الجميع دون استثناء. ولا يمكن أن تكون أية حرية مجتزأة سبباً للكشف عن كافة الأوراق التي قد تلحق الأذى الكبير بالتنظيم.