حذر عدد من العلماء المسلمين من مخاطر التوظيف السياسي للفتوى، مؤكدين على ضرورة أن تكون الفتاوى التي من شأنها الإسهام في وحدة الأمة، صادرة عن أهل العلم المتخصصين، الذين يحرصون على أن تكون فتاويهم مشفوعة بالأدلة الشرعية، ومحذرين من الفتاوى الشاذة التي تصدر عن الدخلاء على العلم الشرعي وأهله.
جاء ذلك في الملتقى العلمي الثاني الذي نظمته دائرة الإفتاء العام الأردنية، تحت عنوان: "الفتوى وآثارها على وحدة الأمة"، المنعقدة يوم الاثنين 23 كانون الأول/ ديسمبر 2013م، في العاصمة الأردنية عمان.
حيث تناول المشاركون في الملتقى عددا من الموضوعات المتعلقة بأهمية الفتوى، وخطورة عمل المفتي الذي يقوم بإصدار الفتاوى، ودور الفتوى في تحقيق الأمن الاجتماعي، ووسطية الفتوى وتجردها عن الهوى، وطبيعة العلاقة بين الإعلام ومؤسسات الفتوى.
وشدد العلماء على ضرورة حماية مؤسسات الفتوى من مخاطر التوظيف السياسي، بتهيئة مناخات مريحة يمارس فيها المفتون عملهم باستقلالية تامة، كما انتقد مشاركون في الملتقى غياب المرجعية الفقهية المعتمدة عند أهل السنة، التي يمكنها أن تكون راعية وضابطة لأداء المفتين.
وتساءل المشاركون في الملتقى عن كيف يمكن للفتوى التي هي بذاتها متعددة ومختلفة تبعا لمناهج المفتين وأصولهم أن تكون أداة توحيد للأمة؟! وكيف يُعوّل على الفتوى باعتبارها عامل وحدة وهي خاضعة لمؤثرات وضغوط سياسية تعمق خلافات الأمة وتزيدها تشرذما؟ وكيف يمكن للفتوى القيام بذلك الدور التوحيدي في الوقت الذي توظفها مراجع سياسية ودينية لأغراض الحشد المذهبي المؤجج لنيران الصراعات الطائفية كما يجري في العراق وسوريا؟.
الخلايلة: يمكن للفتوى المتقيدة بالضوابط الشرعية المعتبرة أن تكون سببا لوحدة الأمة
في معالجته للأسئلة المطروحة أوضح الأمين العام لدائرة الإفتاء الأردنية الدكتور محمد الخلايلة أن هناك الكثير من المسائل الدينية هي محل اتفاق بين فقهاء المسلمين، وهي أكثر بكثير من مسائل الاختلاف، ويمكن للفتوى الصحيحة المتقيدة بالأصول الصحيحة والضوابط الشرعية المعتبرة أن تكون سببا لوحدة الأمة من خلال توحيدها حول المسائل المتفق عليها.
ولفت إلى امكانية تجاوز مسائل الاختلاف، إذا ما راعى المسلمون أصول فقه الاختلاف وآدابه كما كان يطبقها سلفنا الصالح من قبل، الذين كانوا ينظرون للاختلاف باعتباره عاملا لتنمية الفكر، وإثراء البحث، مع المحافظة على روابط الأخوة الإيمانية فيما بينهم.
وركز على ضرورة أن تكون الفتاوى التي من شأنها الإسهام في وحدة الأمة، صادرة عن أهل العلم المتخصصين، الذين يحرصون على أن تكون فتاويهم مشفوعة بالأدلة الشرعية، محذرا من الفتاوى الشاذة التي تصدر عن الدخلاء على العلم الشرعي وأهله، فتطير بها وسائل الإعلام وتنشرها من غير تثبت ولا رجوع إلى أهل الفتوى الراسخين.
السعدي: فتاوى التجييش المذهبي سياسية وليست دينية
من جهته دعا الأكاديمي العراقي أستاذ الفقه وأصوله في جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن، مؤسسات الفتوى في العالم الإسلامي للالتقاء والتوافق على الثوابت المجمع عليها بالأدلة القطعية، أما ما يقع في دائرة الأدلة الظنية ففيه مجال واسع للنظر والاختلاف، مع ضرورة التقيد بأخلاقيات الاختلاف وآدابه.
وفي جوابه عن سؤال كيف يمكن لمؤسسات الفتوى القيام بمهامها باستقلالية تامة بعيدا عن ضغوط الأنظمة السياسية، قال السعدي: إن من شروط المفتي المعتبرة أن لا يتأثر بالسلطة، ولا يخضع لسياساتها وإملاءاتها، نافيا أن تكون مؤسسات الفتوى في عالمنا الإسلامي خاضعة في عملها لتوجيهات السلطات، مستدركا أنها قد تكون مجاملة أكثر منها خاضعة بحسب قوله.
أما بخصوص الفتاوى الصادرة عن مراجع فقهية تحرض على الصراعات الطائفية والمذهبية، كما يجري في العراق وسوريا، استنكر السعدي تلك الفتاوى مؤكدا أنها تعكس توجهات سياسية وليست مبنية على أسس شرعية سليمة، داعيا إلى توقيف حملات التحريض والتجييش المذهبي والطائفي التي يكتوي المسلمون بنارها في بلاد الشام والرافدين.
منصور: التوظيف السياسي للفتوى واقع لا يمكن انكاره
في سياق متصل أكدَّ الأكاديمي الأردني أستاذ الفقه وأصوله في الجامعة الأردنية، الدكتور محمد خالد منصور أن الفتوى حينما تصدر عن أهلها المستجمعين لشروطها فإنها تكون سببا في توحيد الأمة، لأنها تشيع الفتاوى المعتمدة والمعتبرة بأدلتها الشرعية الثابتة والصحيحة، بعيدا عن الفتاوى الشاذة والغريبة، التي تبيح سفك الدماء المعصومة وتتجرأ على ذلك.
وأوضح أن نسبة كبيرة من أحكام الشريعة هي مسائل اتفاقية بين الأئمة والعلماء، كأصول العبادات والشرائع، وأن الاختلاف يقع في مسائل فرعية معدودة ومحدودة يسوغ فيها الاختلاف والاجتهاد.
ولفت إلى أن كثيرا من الخلافات الأصولية والفقهية حُققت من قبل العلماء المحققين، وأن قدرا كبيرا من تلك المسائل أصبحت تُذكر الآن في سياق السرد التاريخي لعلمي الأصول والفقه، موضحا أن كثيرا من مسائل الاختلاف في الفقه وأصوله استقرت وحُسمت.
وأقر بوقوع التوظيف السياسي للفتوى بشكل مباشر وغير مباشر، فمن يفتي للسلطان بما يريده ويوافق سياساته فهذا توظيف مباشر للفتوى، أما حينما يكون المفتي غير واعٍ لما يجري حوله، فإنه يوظف فتواه لأغراض سياسية من غير ادراك منه بذلك.
وحذر من إقدام المفتي بشكل فردي على إصدار الفتاوى المتعلقة بالسياسات العامة، أو الحث على المشاركة في أعمال قتالية هنا أو هناك، مطالبا بأن تتولى المجامع الفقهية إصدار الفتاوى في تلك القضايا الهامة والخطيرة لأنها أقدر بصفتها الجمعية على الاحاطة بحيثيات الفتوى ومقدماتها وواقعها وكل ما يحيط بها من جوانبها المتعددة والمختلفة.