6- الخلاف بين الإسلاميين في قضية الإصلاح:
قررنا أن الخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين راجع للاختلاف في قضية المرجعية، وأما الخلاف بين الإسلاميين فيشمل صورًا؛ حيث إن منهم طائفة هي أقرب ما يكونون إلى العلمانيين، وهم مَن يسميهم الناس بالعقلانيين، وأشدهم غلوًّا مَن يسمون بالقرآنيين!
وهؤلاء بعد أن يقولوا بمرجعية الإسلام يرون أن مِن حقهم أن يتعقبوا نصوص الوحي بعقولهم! أو أن يقولوا: نكتفي بالقرآن ونترك السنة! فكيف نكتفي بالقرآن ونترك السنة مع قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، (النحل:44)؟!
فالذي أنزل القرآن أخبرنا بأن هذا القرآن يحتاج إلى بيان، وأن البيان موجود في ذكر آخر هو أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمن يقول: سآخذه بغير بيانه فهو إذن متعمد للمخالفة تقريبًا؛ لأنه إذا كان معظمًا للقرآن ويريد اتباعه ففي القرآن أن ثمة بيان لهذا الذي في القرآن، وأنه محتاج في ذلك البيان لمصدر آخر قد أرشد القرآن نفسُه إليه؛ فالخلاف إذن في مسألة المرجعية.
وهؤلاء كان الخلاف معهم قديمًا في قضايا كانت تأخذ منحى عقديًّا، في مسائل الأسماء والصفات، ومسائل القضاء والقدر، والإيمان والكفر، ونحوها، وأما الآن فهم يطبقون المنهج نفسه في قضايا معاصرة حتى سماهم البعض أو سموا أنفسهم بـ"المعتزلة الجدد"، مع أنهم لا عناية لهم تقريبًا بمسائل الأسماء والصفات، والقدر، والإيمان والكفر، والأشياء التي ميزت منهج المعتزلة في القديم، ولكن هم يقولون إن منهجهم هو نفس منهج الاستدلال عند المعتزلة ونفس المرجعية، وبالتالي فهم يطبقون هذا الكلام في مسائل سياسية كمسألة ولاية الكافر، وولاية المرأة، والعلاقات الدولية، وبعض الفتاوى الفقهية، إلى غير ذلك.
ويقابل هؤلاء مَن يقولون: إن مرجعيتهم هي الرجوع إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، فالكتاب تقريبا مُتفق عليه عند كل من يقول بمرجعية الإسلام، فأقل شيء أن يقول الكتاب.
فنقول: طالما بدأنا بالكتاب فحسنًا، لنلتزم إذن بما فيه، وقد وجدنا فيه: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)، (الحشر:7)، ووجدنا فيه أن هناك ذكرًا آخر مبيِّنًا لهذا الذكر: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، (النحل:44)، فلزم أن نعود إلى السنة.
ثم وجدنا في الكتاب والسنة معًا لزوم اتباع فهم الصحابة؛ ففي الكتاب: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ)، (البقرة:137)، ووجدنا في السنة: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)، (متفق عليه)، ووجدنا: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ)، (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
إذن كما أرشد الكتاب إلى السنة، فإن الكتاب والسنة أرشدا إلى أنه لابد من التقيد بفهم السلف للقرآن والسنة، وهذا شيء منطقي وطبيعي، فكما أن السنة شارحة مفسرة للقرآن، فقد وجد الصحابة التطبيق العملي من الرسول -صلى الله عليه وسلم- للقرآن والسنة، فصاروا هم المرجع في أن ينقلوا لنا ذلك الأمر، فهذا في مرجعية الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
وبين هذه المرجعية السلفية والمرجعية العقلانية -أو التي تسمي بالعقلانية- مَن يقول بالرجوع إلى الكتاب والسنة ويسكت عن قيد "بفهم سلف الأمة"، فتراه تارة أقرب ما يكون إلى السلفية، وتارة أقرب ما يكون إلى العقلانية!
- فربما يكون في الاتجاه ككل بعض أفراد أقرب ما يكونون إلى السلفية، وبعض أفراد أقرب ما يكونون إلى العقلانية، أي: أفراد هكذا وأفراد هكذا.
- وإما الاتجاه نفسه تارة كله يكون هكذا وتارة كله يكون العكس.
- وإما الشخص الواحد تارة يكون هكذا وتارة يكون العكس.
7- مكونات منهج الحركات الإسلامية:
رأينا فيما مضى أثر مناهج التلقي ومصادر الاستدلال على قضية مناهج التغيير، وفي الواقع إن لها أكبر الأثر على كل المكونات الفكرية لأي اتجاه بحيث يمكن اعتبارها هي قضية البدء في تحليل أي حركة إسلامية، وبصفة عامة يمكن تحليل منهج أي حركة إسلامية إلى:
1- المرجعية أو منهج الاستدلال أو مصادر التلقي:
وهذه المرجعية تنعكس على جميع ما تتعلمه منها ثم تعمل به، فالمرجعية كمسألة علمية مبدئية يتفرع عليها كل مسائل العلم والعمل بعد ذلك، لكن العلماء اهتموا بشكل خاص بعد ذلك بالمنهج العقدي، وهو الأمر الثاني:
2- المنهج العقدي:
والمنهج العقدي هو تطبيق لمنهج الاستدلال في قضايا الإيمان بالله، والملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقدر، والصحابة، والإمامة، وغيرها من مسائل الاعتقاد.
3- المنهج العملي: ويشمل:
أ- المنهج الفقهي.
ب- منهج الإصلاح: ويدخل فيه المنهج السلوكي والتربوي.
8- "الفرق الإسلامية - الحركات الإسلامية":
قدمنا أن الخلاف في مناهج الاستدلال هو أصل لكل خلاف بعده، وأن أبرز ميادين الخلاف بعد ذلك هو الجانب العقدي؛ لأن قضايا الاعتقاد قضايا كلية فيترتب على المخالفة فيها وصف صاحبها بأنه صاحب بدعة، فبناء عليه صنَّف العلماء الفرق الإسلامية بناءً على مناهجها في الاستدلال وفي العقيدة؛ وقالوا: هؤلاء ابتدعوا في مسائل الإيمان والكفر: كالقول بتكفير مرتكب الكبيرة، وسموهم: خوارج، وقالوا: هؤلاء أخرجوا العمل من مسمي الإيمان، وسموهم: مرجئة، وهؤلاء ذموا الصحابة أو غلوا في آل البيت وذموا الصحابة -رضي الله عنهم- فهؤلاء الشيعة، ومن هنا ظهرت الفرق الإسلامية، وكل منها يتميز ابتداءً بمنهج في الاستدلال والتلقي ثم تفرع عليها الخلاف في كل قضايا العقيدة أو بعضها، وصنفت الفرق على هذا الأساس.
أما في العصر الحديث، فالخلاف معظمه منصب على منهج الإصلاح أو منهج التغيير، وإن كان لا يمنع أن تجد في العصر الحديث خلافًا عقديًّا، فإن هناك "تكفير"، وهناك "توقف"، وكذا، وكذا، وكل هؤلاء عندهم خلاف في منهج الاستدلال، وخلاف في قضية عقدية، وخلاف في قضية عملية أو في قضية الإصلاح والتغيير، وهناك بعض الاتجاهات الإسلامية أو أكثر من اتجاه إسلامي متفقون في مصادر التلقي وفي القضايا العقدية، ولكن مختلفين في مناهج الإصلاح، فينبغي أن يُعطى كل خلاف حقه، ويُعامل بما يقتضيه.
فائدة حول كلمة: "سلفية المنهج عصرية المواجهة":
يطلق البعض عبارة: "سلفية المنهج عصرية المواجهة"، وهذه العبارة ملتبسة قد يُفهم منها أحد معنيين:
المعنى الأول: يعني الالتزام بالمنهج السلفي في الاستدلال عند التعامل مع قضايا العقيدة والتحلل منه عند التعامل مع قضايا الإصلاح والتغيير أو المواجهة، وهذا معنى فاسد لا يمكن التعويل عليه بحال من الأحوال، والنصوص التي أمرت باتباع الكتاب والسنة لم تفرق بين عقيدة وعمل ولا بين منهج ومواجهة، وهي تلزِم الجميع بالرجوع إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وقد ترتب على وجود هذا الفهم المغلوط تيارات ذات سمت سلفي، ولكن لها ممارسات لا تمت إلى السلفية بصلة.
وأما المعنى الثاني: والذي يراد به الإشارة إلى أن وسائل الدعوة غير توقيفية، فهو معنى صحيح في ذاته، ولكن يلزم التعبير عنه بعبارة غير ملتبسة.
وهذا يقودنا إلى الحديث حول مسألة أخرى، وهي: هل وسائل الدعوة توقيفية أم لا؟
وهي مسألة وثيقة الارتباط بمسألة مناهج الإصلاح، والناس فيها طرفان ووسط:
الطرف الأول: من يقول: "إن وسائل الدعوة توقيفية"، ومع كثرة القائلين بهذا إلا أننا لا نكاد نعلم أحدًا على وجه الأرض يلتزم به، وقد صرَّح بذلك الشيخ الألباني -رحمه الله- وهو أبرز القائلين بأن وسائل الدعوة توقيفية، فكان يقول: "مع أني أعلم أن هناك وسائل لم يفعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن نفعلها: كتأليف الكتب، وتسجيل الأشرطة، ونحو هذا، ولكن أخشى أن أقول غير توقيفية فيفتحوا الباب على مصراعيه في التمثيل وغيره من الآثام".
والطرف الآخر في المقابل: هناك مَن يقول: "وسائل الدعوة الأمر فيها واسع دون ضوابط"، وبالتالي أحيانًا يدخل حتى الكذب في وسائل الدعوة، فيقترب أو يحاكي تمامًا مبدأ: "الغاية تبرر الوسيلة".
والصحيح أن نقول: "إن الوسائل المباحة لها أحكام المقاصد"، وقيد (المباحة) هنا يغلق الباب على أصحاب قاعدة: "إن الغاية تبرر الوسيلة"، دون أن نغلق باب استعمال ما ينعم الله به على العباد من معرفة السنن الكونية في أفضل ما يمكن أن تستعمل فيه، وهي: "الدعوة إلى الله".
فهل يعقل أن يكون استعمال آلة تكبير الصوت مثلاً مباحًا إذا ما استعملت في تدريس علوم مباحة، ومحرمة إذا استعملت في تعليم علوم الدين؟!
بل الصحيح أنها حينئذٍ لا تبقى على إباحتها، بل تأخذ حكم مقصدها، ومِن ثَمَّ تدخل في الطاعات، ويثاب من يساهم في شرائها أو تشغيلها بغرض خدمة الدين، كما أن استعمالها في أمور محرمة كالموسيقى يعطيها حكم مقصدها أيضًا، وعلى هذا فقس.