الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد،
فإن طريق الحق ليس مفروشًا بالرياحين والورود، وإنما هو مفروش بالأشواك؛ حتى لا يتحمل رسالةَ الحق في الأرض إلا من صبر على البلايا والمحن، التي
تُقوِّي عودَ صاحبها؛ ليصبح مأمونًا على حمل العقيدة والرسالة، وقد سَأَلَ رجلٌ الإمامَ الشَّافِعِي رحمه الله، فَقَالَ: يَا أَبَا عبد الله أَيّمَا أفضل للرجل: أَن يُمَكَّن أَو يُبْتَلِي؟ فَقَالَ الشَّافِعِي: "لا يُمَكَّن حَتَّى يُبتَلى، فَإِن الله ابْتَلى نوحًا وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى ومحمدًا صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ، فَلَمَّا صَبَرُوا مكَّنهم". (الفوائد لابن القيم).
قال ابن القيم في (زاد المعاد) معلقا: "فَلَا يَظُنُّ أَحَدٌ أَنَّهُ يَخْلُصُ مِنَ الْأَلَمِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يَتَفَاوَتُ أَهْلُ الْآلَامِ فِي الْعُقُولِ، فَأَعْقَلُهُمْ مَنْ بَاعَ أَلَمًا مُسْتَمِرًّا عَظِيمًا بِأَلَمٍ مُنْقَطِعٍ يَسِيرٍ، وَأَشْقَاهُمْ مَنْ بَاعَ الْأَلَمَ الْمُنْقَطِعَ الْيَسِيرَ بِالْأَلَمِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَمِرِّ".
ولهذا جعل الله الطريق إلى الجنة محفوفًا بالمصاعب والمتاعب والآلام، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ". (متفق عليه).
ولما كان الصراعُ بين الحق والباطل طويلاً ممتدًا يحتاج إلى صبر وعزيمة وإيمان، فقد بيّن الله تعالى للمؤمنين طبائع النفوس في هذا الصراع، حتى لا يُقْعِدَهم اليأس عن المواصلة أو يدفعَهم إلى الوهن، فقال سبحانه (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)، (النساء: 104).
أَيْ: لا تَضْعُفُوا فِي نصرة الحق، إِنْ تَكُونُوا تَتَوَجَّعُونَ مِنَ المحن والشدائد، فَإِنَّهُمْ يَتَوَجَّعُونَ مثلكم، فحُصُولُ الْأَلَمِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَكُمْ، فإذا كان الألم الذي يصيب الانقلابيين لا يمنعهم من مواجهتكم والتعدي عليكم يا أهل الحق والشرعية؛ فلا ينبغي أن يكون تألُّمُكم مانعًا لكم من مواجهتهم والتصدي لعدوانهم، خصوصا وَأَنْتُمْ تَأْمُلُونَ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا مَا لَا يَرْجُونَ.
وبهذا التصوير يفترق طريقان ويبرز منهجان، ويصغر كل ألم، وتهون كل مشقة، ولا يبقى مجال للشعور بالتعب وبالكَلال، فالانقلابيون كذلك يألمون، ولكن شتان بين هؤلاء وهؤلاء، فأهل الحق والشرعية يرجون من الله ما لا يرجو الانقلابيون!
بعض مظاهر الألم في الفريقين:
- أما أهل الحق والشرعية السلميون: فيتألمون بسبب ما يتعرضون له من القتل والإبادة والتعذيب والاعتقال والظلم والتشويه ومصادرة الأرزاق والتضييق على المعايش والفصل من الوظائف ونحو ذلك، مما يتصور الانقلابيون أنه سيدفعهم للاستسلام والخضوع، خصوصًا مع استمساك دعاة الشرعية بالسلمية الكاملة في التصدي لهذا العدوان الفاجر، والنصرُ عاقبة أمرهم إن شاء الله، وفي ذلك يقول الله تعالى (وكأين من نَبِي قَاتل مَعَه ربيون كثير فَمَا وهنوا لما أَصَابَهُم فِي سَبِيل الله، وَمَا ضعفوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَالله يحب الصابرين، وَمَا كَانَ قَوْلهم إِلَّا أَن قَالُوا رَبنَا اغْفِر لنا ذنوبنا وإسرافنا فِي أمرنَا وَثَبت أقدامنا وَانْصُرْنَا على الْقَوْم الْكَافرين، فآتاهم الله ثَوَاب الدُّنْيَا وَحسن ثَوَاب الْآخِرَة. وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ)، (آل عمران: 146-148)، ثم إن كل تلك الآلام الحسية والنفسية يجعلها الله تكفيرا للسيئات، ففي الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ (أي وجع)، وَلَا نَصَبٍ (أي تعب)، وَلَا سَقَمٍ، وَلَا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ، إِلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ"، (أخرجه مسلم)، فهو ألم تخففه حلاوة الأجر العظيم الذي وعد الله به.
وأما فريق الانقلاب الدموي فيتألمون لأسباب عديدة منها:
- إحساسهم بفقدان الشرعية التي لا مناص لمن يريد الحكم منها، فهم كاللص الذي سرق ما لا حق له فيه، خصوصًا مع إصرار أصحاب الحق على استعادة حقهم، وقد كان الصمود المبهر للرئيس الشرعي لطمة شديدة الألم للانقلابيين، الذين يدركون يومًا بعد يوم أن انقلابهم في طريقه للسقوط بإذن الله، وقد رأينا تخبطهم وارتباكهم ولهاثهم العجيب في الإسراع بإنهاء أعمال لجنة الأشقياء الخمسين، أملاً في تحقيق شرعية زائفة، فوقعوا في أخطاء جمة جعلتهم أضحوكة لكل المتابعين.
- إصرار أصحاب الشرعية على السلمية، مما يكشف همجية الانقلابيين، ويؤدي لتصدع صفوفهم وإفاقة المغيبين الذين خدعتهم شعارات الانقلابيين الزائفة، فينفضُّون من حولهم ويقفون في صف الشرعية، ويومًا بعد يوم يزداد اصطفاف المخلصين ضد هذا الانقلاب الفاشي الفاشل بإذن الله.
- فشلهم الذريع والفاضح في إدارة الأمور مما يؤدي لتفاقم الأزمات التي يعيشها المواطنون ويزيد من غضب الجماهير، كما يزيد من التفاف الشعب حول الشرعية، وانضمام قوى جديدة للشرعية ممن يكتشفون أن الانقلاب يسعى لعسكرة كل أجهزة الدولة، ويعيد كل من سبق فسادهم وإفسادهم للتحكم والاستبداد بمصير البلاد والعباد.
- النزاع والشقاق الذي يقع بين مكونات الانقلاب، ورغبة كل فريق أن يحصل على أكبر قدر من المميزات على حساب الوطن، ويزداد هذا الشقاق مع ظهور أمارات الفشل وإحساس كل منهم بأن الآخر سوف يبيعه عند الجد، وسيقفز من المركب الذاهبة إلى الغرق، لأنهم لا خَلاق لهم، والذي باع وطنه ونكث عهده وخان قسَمَه بالله لن يعزَّ عليه أن يبيع شريكه في الخيانة.
- الخوف الذي يقض مضاجعهم من لحظة الحساب على بحور الدماء البريئة المعصومة التي ولغوا فيها بغير حق، سواء في محاكم وطنية أو محاكم دولية، وهي لحظة آتية لا محالة إن شاء الله، لأن الشعب المصري الكريم لا يمكن أن ينسى هؤلاء الآلاف الذين اغتالتهم رصاصات الغدر الانقلابية، وهم يواجهون الانقلاب بصدورهم العارية وحناجرهم التي تهتف بالسلمية. ولعل الرعب الهائل الذي يصيبهم من مجرد رفع إشارة رابعة هنا أو هناك دليل دامغ على عمق إحساسهم بالجريمة التي ارتكبوها، وعلى رغبتهم العارمة في التغطية عليها بأي شكل، ومعاقبة كل من يذكرهم بها أو يحاول أن يخاطب ضمائرهم بشأنها (يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)، [الحج: 72].
- أما حسابهم بين يدي الله فشأن آخر أكبر وأخطر، فإذا كان جزاء من قتل مؤمنًا واحدًا عمدًا هو ما جاء في قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)، [النساء: 93]؛ فما ظنكم بمن قتلوا آلاف المؤمنين؟ وفي الحديث عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ أَنَّ الثَّقَلَيْنِ اجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وجُوهِهِمْ فِي النَّارِ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ يَشْتَرِكُ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ فِي قَتْلِ مُؤْمِنٍ إِلَّا كُتِبَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى الْقَاتِلِ وَالْآمِرِ"، فكيف بمن اشتركوا في قتل آلاف المؤمنين إذا لقوا ربهم بهذه الدماء من غير توبة؟!
بعض ما ترجونه أيها المتمسكون بالشرعية من الله ولا يرجوه الانقلابيون:
- أنكم ليست لكم أهداف شخصية ولا مادية، وترجون من الله ظهور الحق على الباطل، وتنتظرون تحقيق ما وَعَدَكُمُ اللَّه تَعَالَى من النصر فِي آيات كثيرة في القرآن، كقوله (إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، [غافر: 51]، أما هم فلا يوجد لعملهم هدف مشروع، بل كل أهدافهم مادية وهي السيطرة على السلطة والثروة وإذلال الشعب بأي سبيل، ويصيبهم الهلع كلما أحسوا بالفشل في ذلك.
- أَنَّكم مُوقنونَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وبِأَنَّ لَكُمْ فِي نصرة الحق ثَوَابًا عَظِيمًا، وإن فاتكم الفوز في الدنيا فلن يفوتكم ما ضمن الله لكم في الآخرة وهو الجنة إن أخلصتم (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)، (التوبة 52)، ولا شك أن حلاوة الأجر تخفف مرارة الصبر، أما هم فلا يعيرون اهتمامًا لذلك، فهم لا ينتظرون ثوابًا ولا ثمرة عائدة إليهم من إعانتهم على الباطل، ولا يرتقبون عند الله شيئًا في الحياة ولا بعد الممات، لأن كل أغراضهم مادية بحتة.
- أنكم بإيمانكم بالله وحده تتوجهون إليه بجهادكم وتلجئون إليه في طلب النصر والرحمة، وهو الذي بيده مفاتيح السموات والأرض، وبقدرته ومشيئته يتحقق النصر (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، [الْأَنْفَالِ: 64]، أما هم فليس عندهم ملجأ يستمدون منه النصر إلا قوتهم المادية وزعماء الشر الذين يركنون إليهم، وهم-مهما ملكوا من القوة والمال- بشر ضعاف مثلهم، ولا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، فضلاً عن أنهم يقومون بابتزازهم ليتنازلوا عن كثير من كرامتهم الشخصية والوطنية مقابل مساعدتهم في باطلهم.
لهذا فإن قُوَّةَ الرَّجَاءِ في قلوبكم يا أصحاب الشرعية تُخَفِّفُ كُلَّ أَلَمٍ، بل هي كفيلة أن تُنْسِيكم إِيَّاهُ، وإنكم بهذا الأمل وبهذا الرجاء أقوى عزيمة وأشد بأسًا ممن فقدوا هذا الأمل ويئسوا من الآخرة، فاستولى عليهم الخوف من عدم تحقيق أغراضهم المادية وشهواتهم الدنيئة، ومن ثَمّ فهم يواجهونكم ويعتدون عليكم فقط تنفيذا للأوامر الظالمة أو للعصبية والعنصرية المقيتة، والنزعة الجامحة في السيطرة وتحقيق المصالح المادية الزائلة.
وشتان بين من يبتغي وجه الله بعمله وبين من يتعلق بشهوات ساقطة وأغراض زائلة، وسترون عن قريب ثمرة نضالكم السلمي الرائع من النصر والتوفيق، ولذلك ختم الله الآية الكريمة بهذا الختام الموحي: (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا)، بحالكم (حَكِيمًا) فيما يأمركم به وينهاكم عنه، فلا يكلفكم شيئًا إلا ما فيه صلاحكم في دينكم ودنياكم على مقتضى علمه وحكمته، وَقَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِهِ الْمُحِيطِ، وَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ الْبَالِغَةُ، وَمَضَتْ سُنَّتُهُ الثَّابِتَةُ، بِأَنْ يَكُونَ النَّصْرُ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا بِهَدْيِهِ عَامِلِينَ، وَعَلَى سُنَنِهِ سَائِرِينَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ وَعْدٌ من اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ.
لماذا جاء بهذه الآيات عقب الحديث عن الصلاة في الحرب والسلم أو في الخوف والأمن؟
أثناء الصراع تأتي لحظات تعلو فيها المشقة على الطاقة، ويربو الألم على الاحتمال، ويحتاج القلب البشري إلى مدد فائض وإلى زاد متجدد، هنالك يأتي المدد من الصلاة والوقوف بين يدي الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، [البقرة: 153] ويأتي الزاد من ذلك الكنف الرحيم؛ لإيجاد حالة تعبئة نفسية كاملة تواجه كل عوامل الضعف البشري، كما تمنع حصول أي فتور أو يأس أو إحباط، وتملأ القلب بالثقة في ضمان الله النصر للمجاهدين الصادقين.
فما أجدرنا أن نستمسك بشرعيتنا ونضالنا السلمي المبارك، وأن نهتم غاية الاهتمام بالصلوات المكتوبة في الجماعة، وأن نحرص غاية الحرص على النوافل وبخاصة قيام الليل، نتذلل لله، ونلتمس رحمته ومعونته وتوفيقه، موقنين بوعد الله تعالى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)، [العنكبوت: 69].
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم