لا تحسبوه شراً لكم

الرئيسية » حصاد الفكر » لا تحسبوه شراً لكم
اعتصام-رابعة-8

نتحدث في هذه الخاطرة بإذن الله عن جوانب الخير التي يمنحنا إياها الله سبحانه وتعالى من حدث الانقلاب لنرى حكم الله فيها، لتصحيح المسار وتزكية النفوس وإعدادها للمرحلة المقبلة، ولا يعني هذا أن الانقلاب كله خير، ولكن ذلك فقط للمؤمن كما عبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر أنه عجباً لأمر المؤمن كل أمره له خير إن أصابه خير شكر فكان خيراً له وإن أصابه شر صبر فكان خيراً له وليس ذلك إلا للمؤمن:

1- لنحدد أولا ماذا كان يتمنى المصريون جميعا من ثورة 25 يناير؟ ألم يطالبوا بالحرية والكرامة والحياة الكريمة، وهذا لا يتحقق إلا إذا تخلصت مصر من التبعية وتحققت لها مظاهر الاستقلال في إرادتها كما عبر عن ذلك رئيسها المنتخب أن تمتلك غذاءها ودواءها وسلاحها وهذا يحتاج أن يتأهل معظم أفراد الأمة (مسلميها ومسيحييها) وفق قيم ومثل وأخلاق ودين الأمة، لأنها في تاريخها كله لم تستطع أن تحقق رخاءها إلا بهذا التأهل، والسؤال هل كنا مؤهلين بهذه القيم؟ وهل تجردنا جميعا من الأهواء والرغبات الضيقة وحملنا هم الأمة؟ وهل تيقنا بأن نجاح الثورة لم يختص به أحد وإنما كان منّة من الله سبحانه وتعالى؟ وهل تذكرنا أن من أسباب النصر أن كل منا قد وضع يده بيد الآخر ولم يعد يهمه إلا أن يتحقق النصر والتغيير الذي يريده؟ وهل تذكرنا ما كنا نرفع من شعارات كلها تؤكد أننا شعب واحد ويد واحدة أم كنا فرقاً وشيعا؟ ....الخ، هذا من الأسئلة الكثيرة والتي تؤدي كلها أننا جميعا، إلا ما رحم ربي، نسينا كثيرا من هذه المعاني وأصبح هم الكثيرين منا لماذا هو وليس أنا؟ ولذلك كان لابد من الاختبار والتمحيص والتمييز والتزكية والإعداد وتنقية الصفوف وتعرية كل منافق أو متخاذل أو صاحب هوى، وهذا لا يمكن أن يتم إلا باختبار صعب يزلزل الناس فيه، فيثبّت من أراد الله له الثبات، ومن أراد الله له غير ذلك، ألم تنظر إلى قول الله عز وجل: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله"، وقوله: "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب"، وقوله: "إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا"، وقوله: "لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم من الله شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت"، والآيات في هذا المجال كثيرة، وكان هذا الانقلاب وما تبعه من آثار بمثابة الزلزال على قلوب الكثيرين، ونسأل الله أن تكون نهايته قريبة.

2- حاول البعض أن يشكك في مشاركة جماعة الإخوان المسلمين في ثورة يناير، واعتمد هؤلاء على ضعف الذاكرة، رغم أنهم جميعا اعترفوا علانية بموقف الإخوان في موقعة الجمل وقبلها وبعدها، ولأن الإخوان متجردون لله فلم يردوا على هذه الشبهة، فأراد الله أن يعلي ذكرهم فإذا بكل أبواق الانقلاب تصف كل مناهضي الانقلاب بأنهم إخوان، وكان الله يريد أن يقيم الحجة على هؤلاء بأن الاخوان مشاركون بدور أساسي في هذه الثورة شأنهم شأن الكثيرين من المخلصين من أبناء هذه الأمة، كما شاركوا في يناير 2011م، وهم الحريصين على أن تؤتي ثمارها مهما كلف ذلك، بل نرى من حكم الله سبحانه وتعالى أن الاتهامات التي تكال للمخلصين يردها بتدبيره هو، فانظر حين اتهمت القيادات بأنها تقدم الأفراد دون نفسها فيرد الله باختيار أبناء بعض هذه القيادات أو يختارها نفسها لابتلائه في دحض هذه التهم عنهم، وحين يتهم أفراد الإخوان بأنهم "خرفان" أو أن المرشد العام يسوقهم، يرد الله عز وجل بأن تعتقل القيادات لرفع درجاتها، ويتحرك الأفراد على نحو ربما أفضل مما لو كانت قياداتهم خارج السجون، ليقدموا الدليل على أن كل واحد منهم بأمة، وأنه يتحرك لمبدأ واضح له تمام الوضوح، ويقدم آحاد الإخوان الدليل تلو الدليل على ثباتهم وحبهم لوطنهم واستعدادهم للتضحية في سبيله ودفاعا عن دينهم، ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل تثبت نساؤهم وأبناؤهم أنهم قد تربوا في مدرسة النبوة التي جعلت كل منهم نموذجا، رأينا بعضهم يعيد لنا نماذج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ويلصق الله التهمة بمن اتهمهم بأن هم الذين يساقون كالخرفان.

3- الفساد الموجود في معظم إن لم يكن في كل مؤسسات الدولة، والتي وصفها أحد رموز نظام مبارك بأن الفساد فيها للركب، هل كان الشعب يتخيل هذا الحجم من الفساد؟ بل والإجرام الذي وصل لحد أن يقوم بعض قادة الجيش المصري والشرطة بالقتل والحرق والاعتقال، وكذلك ببعض رجال القضاء الذين تجردوا من ضمائرهم بالإجراءات التي يتخذونها بلا سند من القانون، أو رجال الإعلام الذين يكذبون ليل نهار وهم يعلمون أنهم كاذبون، أو بعض النخبة الذين يحرضون على الكراهية ويقلبون الحقائق ويزيفون الواقع، أو الغارقين في ملذاتهم وشهواتهم ويريدون تحويل المجتمع مثلهم، أو الذين ينهبون ثروات الأمة ولا يشبعون ...الخ. هل كان بإمكان مرسي وحده أن يتصدى لإصلاح هذا كله دون أن يرى الشعب بنفسه هذا الكم من الفساد بل يعاني منه حتى يقف بكل قوة مع مرسي لتصحيحه.

4- لقد اختلف كثيرون مع الدكتور مرسي في طريقة إدارته لشئون الدولة، وحاول بعضهم أن يملي رؤيته في الإدارة، وحاول الرجل مخلصاً بذل ما في وسعه، وتحمل الأذي بصمت، والذي وصل في بعض الأحيان إلى النيل من عرضه وأسرته، واتهمته المعارضة باتهامات كثيرة، وكان لابد من تصحيح الصورة، فلما احتسب هو ذلك عند الله تولى عز وجل الدفاع عنه، وهذا من ثمرات الانقلاب، فبرّأه الله من كل تهمة، ويلصق الله هذه التهم بمن اتهمه بها، حتى أن معلومة عدم تقاضيه مرتبا لم يعرفها أحد حتى ولا مكتب الإرشاد والمرشد العام، الذين زعموا أنهم هم الذين يوجهونه، ولا يظهر الحقيقة إلا عبر سلطة الانقلاب حين أرادت أن تقدم دليل اتهام ضده لتكون التبرئة أقوى وأخزى لمن اتهمه كذبا.

5- وهل كان بالإمكان أن يزيد رصيد هؤلاء المجرمون والفاسدون من الذنوب والخطايا إلا بهذا التآمر على الشرعية، ثم بهذا الأجرام في ردود فعل الانقلابيين ضد رافضي الانقلاب، فالناس نوعان، نوع يعلم الله ما في قلبه من خير، ويريد الله عز وجل أن يرفع منزلته، ولكن عمله لا يوصله هذه المنزلة، فيعرضه الله للابتلاء، فيصبر عليه فترتفع منزلته، وأعلى الابتلاء هو الشهادة في سبيل الله عز وجل، ولذلك قال الله في هذا الصنف "وليتخذ منكم شهداء"، وقال: "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم وليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين"، أما الصنف الآخر فهؤلاء يعلم الله ما في قلوبهم من سوء، فيترك الشيطان ليزين لهم فيدفعهم لفعل الشر، والوقوف مع الباطل، بل يعمي أبصارهم فيروا حسن ما يعملون، وقد يصل الأمر أنهم يروا ثمرة عاجلة لما يقومون به من شر، حتى يستحقون عقاب الله عز وجل، وفيهم قال الله: "وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس واني جار لكم"، وقال: "ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر أنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم"، وقال: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون"، وقال: "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا"، وعبر عن هذه المعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.

6- حاولت وسائل الإعلام الكاذب منها، ومعهم بعض النخبة الفاسدة، أن يشوهوا صورة الإخوان وأن يلصقوا بها كافة الاتهامات نظرا لما حققته الجماعة من نتائج في كافة الانتخابات التي تمت بعد الثورة، والتي أكدت التفاف قطاع كبير من الشعب معها، فأغاظهم ذلك، فحاولوا تفتيت هذه الشعبية بل وطالت الحملة الرئيس باعتباره أحد أبناء هذه الجماعة، وكادت هذه الحملات أن تؤتي ثمارها، وأن يظهر هؤلاء بصورة الناصح الأمين، والقرآن يصور لنا هذه النماذج "وقال فرعون إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد"، وقال: "وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون"، وكانت النتيجة أن دبروا لهذا الانقلاب ظناً منهم أن هذا سيساعدهم في زيادة قدرتهم على تزييف الحقيقة فكان من أمر الله عز وجل أن بدّل هذا بتعريتهم وفضحهم وبيان كذبهم، بل وفي توضيح الرؤية لقطاع من الناس، فبدلا من أن تتراجع شعبية الرئيس أو الإخوان زادت شعبيتهم، وزادت ثقة الناس بهم، بل انظر ماذا أرادوا بمحاكمة الرئيس فإذا بالله يحيلها إلى محاكمة للانقلاب، ورفع مكانة الرئيس إلى زعيم للأمة.

7- هل كان من الممكن دون هذا الانقلاب أن يتبين للناس هذا التمايز سواء للأفراد أو الجماعات والأحزاب أو للمؤسسات، والذي أظهر معادن وسريرة كل صنف من هؤلاء، ففضح الله المنافقين والخونة سواء من بعض قيادات الجيش والشرطة أو بعض المتاجرين بالشعارات أو علماء الضلال، وكذلك فضح كل من كان يصرخ بأعلى صوته مدافعا عن الحرية والكرامة ومدعيا الثورة، فإذا بالانقلاب ورد فعله يبيّن كذبه، وأظهر الانقلاب تلك النماذج المريضة من البشر التي لا تعرف خلقاً ولا تلتزم بدين ولا مبادئ، فقتلت وأحرقت واقتحمت حرمات البيوت واعتدت على الحرائر من النساء، وأظهر أيضاً الانقلاب على الجانب الآخر تلك المعادن النفيسة لمن وقف مدافعاً عن الحق حتى ولو كان على حساب حريته أو ماله أو أهله أو حتى حياته، وأظهر الانقلاب المعدن الحقيقي لشعب مصر، والذي أبهر العالم بأدائه، والذي سيقدم دروساً لتعليم الدنيا بأسرها، وإعطائها النماذج ليس من الرجال فقط وإنما من الرجال والنساء والأطفال، والذين أعادوا لنا ذكريات وأمجاد أبطالنا على مدار التاريخ، فرأينا في عصرنا من يقتدي بحمزة والخنساء وأسامة وغيرهم ليقدم النموذج والقدوة للعالم أجمع.

ولذلك كانت الفائدة الكبرى من الانقلاب هو تمايز الصفوف فيظهر فيها المجرم الذي لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، ويظهر فيها خائن العهد، ويظهر فيها العميل، ويظهر فيها علماء الضلال، ويظهر فيها صاحب المصلحة... الخ، ويظهر فيها أيضاً صاحب المعدن النفيس، والثابت على مبادئه، والمدافع عن الحق، ويختار الله أنفس هؤلاء شهداء ليرفع درجاتهم عنده، وانظر قول الله عز وجل: "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين".

8- أظهر أيضاً الانقلاب مدى الجهد المطلوب ليس من رئيس الجمهورية فقط، وإنما من كل الشعب المصري، وضرورة أن يظل الحراك الثوري الشعبي داعما له حتى يستطيع أن يطهّر مؤسسات الدولة من الفاسدين، بل أراد الله عز وجل أن يهيئ الأمة لكي تستعيد مكانتها في ريادة الأمة العربية والإسلامية ولتستعيد مجدها.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

قراءة سياسية في عبادة الصيام

عندما نضع الصيام في سياق العبادة في الإسلام نجد أن العبادة وسيلة تحقق غايات عليا …