لم تنعم أوكرانيا في تاريخها بالاستقرار السياسي فقد كانت دوما مطمعا للغزو من القوات الخارجية.. فبسبب موقعها المميز الذي يفصل بين روسيا وأوربا تعرضت للغزو من البولنديين والهنغاريين والروس ويهود الخزر وغيرهم.. حتى يقال بأن أصل معنى كلمة أوكرانيا هو (أرض الحدود).
كغيرها من جمهوريات الاتحاد السوفياتي نالت أوكرانيا استقلالها في عام 1991م، بعد تفكك الاتحاد لتجد نفسها جمهورية مستقلة ذات حدود ممتدة مع سبع دول.. وتحتوي تنوعا عرقيا وثقافيا.
تاريخيا استوطن الروس الأراضي الشرقية الأوكرانية وبلغ الاستيطان ذروته إبان فترة الحرب الروسية العثمانية.. إذ استقدم الروس أعدادا كبيرة من قواتهم لتستقر في جنوب شرق أوكرانيا.. وكان الروس ينتهجون سياسة (الروسنة) ففرضوا استخدام اللغة الروسية وحظروا استخدام اللغة الأوكرانية.
لكي نفهم الوضع في أوكرانيا يجب علينا أن ننظر إلى الخريطة.. فأوكرانيا تنقسم بعمق من حيث السكان واللغة والثقافة وهذا بالتالي يؤدي إلى الانقسام في التوجه السياسي.. فثلث البلاد يتحدث الروسية كلغة أم ويعيش في شرقي البلاد.. بينما غرب البلاد يتحدث الأوكرانية.
وقد فرض هذا الانقسام السكاني والثقافي نفسه على النظام السياسي الأوكراني فتم تقسيم الدوائر الانتخابية بعد الاستقلال بالتساوي تقريبا بين جناحي أوكرانيا.. وبقراءة نتائج انتخابات 2004م و2010م يظهر حجم الانقسام السياسي المترتب على الانقسام السكاني بشكل واضح فالمناطق التي يسود فيها الناطقون بالروسية يختارون الأحزاب الموالية لروسيا.. والمناطق التي يسود فيها الناطقون بالأوكرانية تختار التوجه لأوروبا.. وهي المناطق التي تتركز فيها الاحتجاجات حاليا.
على الرغم من أن أصحاب القومية الروسية يشكلون سدس تعداد مواطني أوكرانيا فقط إلا أن تأثير اللغة الروسية أوسع من ذلك بكثير.. فالكثير من الأوكرانيين يتحدثون الروسية كلغة أم.. وحتى عام 2005م، وهو العام الذي وصل فيه الرئيس القومي فيكتور يوشينكو إلى الحكم كانت اللغة الروسية تسيطر على حوالي 60% من الإعلام المرئي والمسموع والمقروء مقابل 40% للغة الأوكرانية.. وقد انعكست النسبة في عام 2010م، عندما ترك منصبه.. وحتى الرئيس الحالي يانوكوفيتش لم يتكلم الأوكرانية إلا بعد أن بلغ الخمسين من العمر.
في الحقيقة لا تنظر روسيا إلى أوكرانيا من واقع الروابط الثقافية التاريخية بين البلدين فقط وإن كان هذا يشكل عاملا مهما في التفكير الروسي وبالإضافة إلى كونها مصدرا للغذاء إلا أن الأمر يمتد إلى أهمية أوكرانيا الجيوسياسية فهي معبر صادرات الطاقة الروسية إلى أوروبا كما أنها مهمة للأمن القومي وتمثل حائطا دفاعيا لحدود روسيا الشرقية..
عامل نفسي أيضا يلعب دورا مهما وهو الحرص على سمعة روسيا وهيمنتها كأخت كبرى ووريثة لمجد الاتحاد السوفياتي السابق.. ولعل هذا ما يفسر متابعة جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة لأحداث أوكرانيا.. لأن تبعات هذه الأحداث ستنعكس على توجهاتهم المستقبلية.
شدت أوكرانيا أنظار العالم في عام 2004م بعد جولة إعادة الانتخابات الرئاسية التي قيل إنه قد شابها التزوير فاندلعت الاحتجاجات التي عرفت إعلاميا باسم (الثورة البرتقالية) وأدت إلى صعود الرئيس القومي فيكتور يوشينكو ونائبته يوليا تيموشينكو..
لم تنجح الثورة البرتقالية في تحقيق آمال الشعب الأوكراني في التحرر من سيطرة رجال الأعمال ومحاربة الفساد وإقامة دولة المؤسسات والقانون وحل مشاكل البطالة والفقر.. بل ساء الاقتصاد الأوكراني بعد ابتعاده عن روسيا التي أحجمت عن دعمه.. وشعر الأوكران بخديعتهم من قبل الغرب الذي لم يقدم لهم الدعم الكافي.. ولم يجدوا عندهم الدفء الذي يحميهم من البرد الشديد بعد ارتفاع سعر الغاز الروسي.. فعادت السيطرة الروسية إثر فوز الرئيس الحالي فيكتور يانوكوفيتش في عام 2010م.
نظرت روسيا إلى الاحتجاجات على أنها مصطنعة تحركها المؤامرة الغربية ضد روسيا ولا تنبع من رغبة شعبية حقيقية في التغيير.. وقد فازت روسيا في تلك الجولة.. لكن آمال الشعوب وتطلعاتها لا تتوقف.. وقد أذكتها سياسات الرئيس يانوكوفيتش الاقتصادية.. ونفوذ رجال الأعمال وسط اتهامات متواترة بزيادة معدلات فساد رجال الدولة واستغلال النفوذ.
بدأت الاحتجاجات الحالية في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عندما رفض يانوكوفيتش التوقيع على اتفاقية للتعاون الاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي.. وتحظى هذه الاتفاقية بشعبية عند الأوكرانيين خصوصا سكان العاصمة كييف.
لم تكن تلك الاتفاقية مجرد اتفاقية تجارية بل إنها ترمز إلى توجه يانوكوفيتش بالابتعاد عن أوروبا.. والاقتراب أكثر من روسيا التي كافأت أوكرانيا على توجهها بدعمها بمليارات الدولارات وبتزويدها بالغاز الروسي بأسعار منخفضة وخاصة.
يدفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشدة باتجاه انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الجمركي الأوراسي بقيادة موسكو، والذي يتألف من عدد من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق بدلا من توجه أوكرانيا إلى الغرب.. وعرض بوتين حزمة تشجيع بقيمة 15 مليار دولار وخفض الأسعار 33 في المائة للغاز الطبيعي الروسي وهي عروض مغرية تجعل من الصعب بكثير على يانوكوفيتش السير بعيدا عن أحضان بوتين.. لا سيما بالنظر إلى كم السخط الشعبي بسبب الحالة الاقتصادية خصوصا عند الطبقة الفقيرة المؤيدة لروسيا.
انخفضت وتيرة الاحتجاجات الأخيرة حتى يوم 16 يناير (كانون الثاني) عندما مرر حزب الأقاليم الذي يرأسه يانوكوفيتش في البرلمان قانون (مكافحة التظاهر) الذي يقيد حرية التعبير والإعلام ويمنع قيادة السيارات في موكب مكون من أكثر من خمس سيارات.. فاندلعت الاشتباكات وامتدت من كييف إلى مناطق أخرى وتم الاستيلاء على المباني الحكومية في بعض المدن من قبل المحتجين.
لجمهورية القرم ذات الحكم الذاتي أهمية خاصة في الأزمة.. فالمنطقة التي يسكنها تاريخيا التتار المسلمون وكانت مركزا لبيع المماليك ومنها ينحدر الظاهر بيبرس.. وشهدت حروبا طاحنة بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية.. قد جرى تغير ديمغرافي فيها أدى إلى إحلال الروس بنسبة 50% بينما تصل نسبة التتار المسلمين 30%.. وهذا الانقسام السكاني أدى إلى انقسام سياسي فالروس يميلون للانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا بينما يناضل التتار للبقاء ضمن أوكرانيا.. لذلك فالقرم تعتبر محورا أساسيا من محاور الأزمة يشكل فيها المسلمون رمانة الميزان وقد عبر الناطقون باسمهم بأنهم لن يسمحوا بانضمام القرم إلى روسيا مهما كان الثمن حتى لا تتكرر مأساتهم.. ومن جانب آخر ليس من السهل على روسيا أن تهمل القرم لوجود قاعدة بحرية عسكرية روسية في سيمفروبل ورثتها روسيا من الاتحاد السوفياتي.
يدور جدل في أوساط المراقبين ويعبر بعضهم عن خوفه من اندلاع حرب أهلية.. وهو احتمال بعيد في هذه المرحلة على الأقل.. والغالب أن يتوصل قادة الحكومة والمعارضة إلى اتفاق.. فالأزمة إن استمرت ستلقي بظلالها على المنطقة لكن مجرد طرح التخوف من الحرب الأهلية يدل على حجم القلق الدولي من المستقبل الذي ينتظر أوكرانيا.
لن تحل المسألة الأوكرانية جذريا من خلال الرهان على الدعم الدولي أو الروسي أو الاتفاقية مع هذه الجهة أو تلك.. فالمسألة معقدة وعميقة ولها أبعادها الثقافية والتاريخية.. وعلى الأوكران أن يحسموا أمر هويتهم الوطنية التي يرونها لأنفسهم.. وأن يعملوا لإيجاد صيغة توافقية يشعر فيها الجميع بالانتماء لوطنهم وليسوا جيوبا لدول أخرى.. ومن هذا المنطلق يرسم الأوكران مستقبل بلدهم القائم على بناء دولة المؤسسات والقانون ومحاربة الفساد والمافيات.. فلا حل لمشكلة الاقتصاد في دولة غنية بالموارد مثل أوكرانيا إلا بناء دولة القانون.