الأيديولوجيا هي الفكر الذي تنطلق منه الثورة، والمؤثر في قياداتها وكتلتها الصلبة.
ويمكننا أن نلحظ أن الثورات المنطلقة على قاعدة فكر قيمي وإنساني كُللت بالنجاح، أما أختها التي فارت ضيقًا بالمعايش أو يأسًا من الحياة فقد قمعت أو تمَّ تطويعها مع الوقت.
ومثير للعجب أن الثورة الفرنسية هي أكبر نماذج الفشل الثوري لأنها بدأت كثورة لليائسين في مواجهة النبلاء والقساوسة، فخلَّفت ألوانًا من الدمار والدماء، وظلَّت متراوحةً في مكانها بين شد فريق وجذب آخر من عام 1786م حتى استقرت رحاها مع دستور الجمهورية الخامسة عام 1958!.
لكنها في النهاية ثورة، غير أن شهرتها في أوطاننا كانت بسبب حالة التغريب وانعدام الهوية لدى نخبتنا، والتي عملت دائمًا كفئةٍ ممثلةٍ لمصالح الطبقة الحاكمة ولا يمثلون ثقافة وضمير الأمة كغيرها من النخب في البلاد المستقلة.
ولنا أن نتذكر أن قيم (حرية- إخاء- مساواة) أتت متأخرةً ولم تكن الباعث الأول للثورة، ولكنها تبلورت مع الدماء والتضحيات حتى أصبح لهذه الثورة قيم إنسانية أبعدتها عن اليأس وعن الاحتراب فقربتها من النجاح.. فكانت الثورة الفرنسية.
أما الثورات التي بدأت (برفض منهجي) لسلب إرادة الشعوب، وأعلت قيمًا إنسانيةً أو عقائد دينية صُلبة فقد كُتِبَ لها النجاح.
خذ مثلاً الثورة الإيرانية التي تأسست على أفكار نضالية "للدكتور علي شريعتي" و"آية الله كاشاني"، والذي تأثر به "الخميني" قائد الثورة، ومما أخبرني به الصحفي الكبير "أ/جابر رزق" رحمه الله (من الرعيل الأول من الإخوان) أن العام الذي اجتمع فيه "آية الله كاشاني "و"حسن البنا" و"أبو الأعلي المودودي" بالحج واتفقوا فيه على ضرورة إعادة صياغة مجتمعاتنا وفقًا للهوية الإسلامية الجامعة، كان هو العام الذي اتخذت فيه القرارات بإهدار دماء الثلاثة فعانوا جميعًا من القتل والمطاردة والتنكيل.
والمعنى أن تماسك ونجاح الثورة الإيرانية الثانية كان بسبب استنادها على عقيدة دينية راسخة ومبادئ تُعلي شأن الكرامة وترفض الظلم وتتبنى رؤية بديلة في الحكم.
وإذا طالعت أخبار الثورة الفيتنامية فسوف تذوب في غرامها، رغم أن القيادات الطليعية للثورة كانت شيوعية، ولكن شيوعية هؤلاء اختلفت جذريًّا عن الشيوعية في بلادنا المنكوبة؛ فقد اعتنقوا هناك الشق الإنساني الذي يتفق مع كل القيم الإنسانية والأديان السماوية مثل العدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية والحرية وتساوي الرءوس في المجتمع، أما شيوعيتنا فقد اكتفت بمحاربة الدين والوقوف ضد قيام الجماعات الإسلامية، وناضلت الظلم قليلاً في البدايات ثم استكانت في حضن السلطة وها هي تقف مع العسكر لولا بروز فئة شبابية لا علاقةَ لها بالحرس القديم، فاحتفظت بنقائها الثوري.
وفي سجلات النضال الفيتنامي ستجد لقادتهم ذوي الأسماء الغريبة أقوالاً في الصمود والإصرار على الحقِّ والتضحية تتطابق مع كلمات "سيد قطب" و"حسن البنا" و"محمد بديع" و"محمد مرسي"، بل عليك أن تنظر باندهاش إليهم بعد مجازر الديكتاتور (دييم) في الشمال أو مجازر الاحتلال الأمريكي في الجنوب لترى كيف يدفنون موتاهم ويلملمون جراحهم ثم يلتقون على أجمل معاني الأمل ويتداولون قيم الثبات وانتصار الشعوب وبقاء الحق كأنك تسمع تمامًا قيادات ثورتنا في الميادين.
من جهةٍ أخرى سترى أن الثورات الملونة (الوردية في جورجيا/ البرتقالية في أوكرانيا/ التيوليب في قرغيزيا/ الزعفران في بورما/ القرمزية في التبت) في أوائل القرن الحالي كُتِبَ لها النجاح حينًا ثم منيت بالفشل الذريع لأنها قامت بأغراضٍ مادية وتناقض (مصالح) مع السلطة الحاكمة؛ لذا فهي تتراوح بين المكسب والخسارة، كما أنها لا تخلو من سندٍ خارجي (أمريكي في الأغلب) مثل الثورة الأوكرانية التي انتصرت في 2004م ثم انطفأت بعد أقلِّ من عقد ثم ها هي تشتعل بدافع مطلبي وليس قيميًّا وبسندٍ أمريكي من جديد.
ونحن هنا لا نقلل من قيمة الهبات المطلبية والحقوقية لكننا نؤكد أن الخلفية العقائدية تصنع ثورة وتضمن لها النصر، وغيابها يصنع صراعًا يكون فيه الفوز والفشل سجالاً.
ومن حسن حظ بلادنا أن النواة الصلبة لثورتنا ترتكز على الإسلاميين؛ لأن الثورات تتعرض لحروب ضروس لا يتحملها الهواة ولا الحالمون الذين يتمنون وطنًا جميلاً دون أن يعدوا العدة أو يثبتوا للتضحيات.
إن الهوية الإسلامية هي المعتقد الطبيعي للشعب المصري، وهي القادرة على أن تجمع مختلف الميول والمشارب، وتقوِّي قلوب الجميع، وها أنت ترى كيف يتقوى الشباب الليبرالي في السجون بسبب ما رآه وسمعه عن الأهوال التي يلاقيها زملاؤهم الإسلاميون من تعذيبٍ وتنكيلٍ وقتل، ولولا هذه الفئة الصابرة لضاعت جذوة الثورة من شباب الاتجاهات الأخرى الذي دبَّ اليأس في قلبه مع أول طلقة رصاص وتبادلوا ثقافة الهزيمة واستسلموا لفرية ضياع ثورة 25 يناير.
ولكن كما ترى الآن يخرج من كلِّ الاتجاهات من يجاهر بالحق ويعلو عن سفاهات الاختلاف والأخطاء الماضية، وما ذلك إلا للصمود الأسطوري لأصحاب العقيدة السليمة الذين أعدوا أنفسهم ليكونوا القاعدة التي تنطلق منها وبها الثورة المصرية.
إن ما تمر به ثورتنا اليوم من تضحيات جسيمة وتآمر سلطات الدولة وانغماس أيديها في الدم البريء لهو كفيل بأن يدمر معنويات أي فئة، لكن الثوار أصحاب العقيدة المسلمة الصافية يعتبرون هذه العقبات من علامات صحة الطريق، ومن هنا اتسعت ثورتهم واستجمعت... وتستجمع شرائح متعددة من الشعب، وانضمام غالبية الشعب لها مؤكد ومجرد مسألة وقت.
ومن هنا نؤمن أن ثورتنا سيكتب لها النجاح بمشيئة الله.
مكملين.. لا رجوع.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- إخوان أون لاين