ليس بالضرورة أن يرافق أي تغيير سياسي تغييراً في القيم والسلوك والتصرفات، فالمشهد السياسي في أي بلد قابل للتغيير إما بشكل مفاجئ كالانقلابات أو الثورات، أو بشكل بطيئ كالتغيير السلمي من خلال المجالس النيابية، أو الوصول إلى منصب الرئاسة. في حين أن تغيير موروثات الشعوب وثقافاتها يحتاج إلى فترة أطول بكثير من تحقيق التغيير السياسي، وتعتمد على حالة الشعوب، وانفتاحها وثقافتها.
وتغيير سلوك الشعوب وقيمها، أكبر تحد يواجه الدعاة في وقتنا، خصوصاً وأن كثيراً من الناس سرعان ما ينقلبوا على كل المنجزات التي تقدم إليهم، فتكون قلوبهم مع الدعاة، وسيوفهم عليهم.
وهذا الأمر خطر للغاية، إذ كثيراً ما تخدع بعض تصرفات الشعوب صناع القرار في الدولة أو الأحزاب والحركات السياسية، فيظنوا أن الشعوب أصبحت مقتنعة بما يحملون من مبادئ، ثم إذا جزء ليس باليسير ينكص على عقبيه، أو يفضل حياة العبودية على حياة الحرية.
من الفرعون إلى العجل..
ويقص علينا القرآن الكريم قصة لابد من أخذ الدروس والعبر منها، خصوصاً في ظل صراعنا مع الباطل ومحو ثقافته وآثاره، فيقول الله تعالى في سورة الأعراف: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَـؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيم}. (138-141).
فبني إسرائيل، أنجاهم الله من ذل فرعون وسطوته، الذي استعبدهم، وفرض عليهم عبادته، وسامهم سوء العذاب، وفي ذات الوقت أثبت لهم موسى عليه السلام بطلان دعوى فرعون، كان آخرها شق البحر أمامهم، في معجزة لم تعرفها البشرية من قبل ومن بعد، وإغراق فرعون وجنده، ومع ذلك تبقى ثقافة بني إسرائيل بالكفر بالله، واتخاذ شريك له حتى لو كان عجلاً له خوار!!.
يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال، في تفسيره لهذه الآيات: "إن العهد لم يطل بهم منذ أن كانوا يسامون الخسف في ظل الوثنية الجاهلية عند فرعون وملئه؛ ومنذ أن أنقذهم نبيهم وزعيمهم موسى - عليه السلام - باسم الله الواحد - رب العالمين- الذي أهلك عدوهم؛ وشق لهم البحر؛ وأنجاهم من العذاب الوحشي الفظيع الذي كانوا يسامون.. إنهم خارجون للتو واللحظة من مصر ووثنيتها؛ ولكن ها هم أولاء ما إن يجاوزوا البحر حتى تقع أبصارهم على قوم وثنيين، عاكفين على أصنام لهم، مستغرقين في طقوسهم الوثنية؛ وإذا هم يطلبون إلى موسى - رسول رب العالمين - الذي أخرجهم من مصر باسم الإسلام والتوحيد، أن يتخذ لهم وثناً يعبدونه من جديد! ..إنها العدوى تصيب الأرواح كما تصيب الأجسام! ولكنها لا تصيبها حتى يكون لديها الاستعداد والتهيؤ والقابلية".
ليس غريباً أن نجد البعض يتمسك بالعبودية، عبودية أي فرعون، حتى لو لم يجد يصنع فرعوناً ليعبده، بغض النظر عن طبيعته وماهيته، تماماً كحال بني إسرائيل حينما استبدلوا فرعون الإنسان، بتمثال العجل الحيوان، المهم أن تبقى موروثاتهم موجودة وهي الإشراك بالله والكفر بوحدانيته.
ولهذا يبرق سيد قطب رسالة للدعاة حتى لا يتفاجؤوا بانتكاسة البعض من بني جلدتهم، ممن رأوا أدلة صدق أهل الحق، وزيف الباطل وكذبه، فيقول رحمه الله: "إن جهد صاحب الدعوة - في مثل هذه الحال - لهو جهد مضاعف. ومن ثم يجب أن يكون صبره مضاعفاً كذلك.. يجب أن يصبر على الالتواءات والانحرافات، وثقلة الطبائع وتفاهة الاهتمامات؛ ويجب أن يصبر على الانتكاس الذي يفاجئه في هذه النفوس بعد كل مرحلة، والاندفاع إلى الجاهلية عند أول بادرة!".
لذا ليس غريباً أن نجد البعض يتمسك بالعبودية، عبودية أي فرعون، حتى لو لم يجد يصنع فرعوناً ليعبده، بغض النظر عن طبيعته وماهيته، تماماً كحال بني إسرائيل حينما استبدلوا فرعون الإنسان، بتمثال العجل الحيوان، المهم أن تبقى موروثاتهم موجودة وهي الإشراك بالله والكفر بوحدانيته.
ولهذا لابد أن يفهم الدعاة، أن حججهم الواضحة، لا يعني أنها تقنع كل الناس، فالبعض قد يفضل البقاء ذليلاً على الحرية خوفاً من التغيير، والآخرون قد يكونوا منتفعين من حالة الإذلال وغير ذلك.
كيف نبني علاقتنا بشعوبنا..
وفي ذات الصدد، لا يقبل أن تكون علاقتنا مع شعوبنا يشوبها الخوف من الانتكاسة أو عدم قبول البعض الآخر لها، فهذا سيؤدي إلى إضعاف الدعوة، وخمول الدعاة وضعف جذوة دعوتهم، بل لابد أن نقدم كل ما نملك في سبيل تغيير الشعوب، تغييراً حقيقياً، وليس الوصول إلى السلطة فحسب. وهو ذات المنهج الذي كان يقصده البنا رحمه الله، منهج يبدأ بالفرد والبيت والمجتمع، مروراً بأسلمة القوانين والدساتير والقضاء، وغير ذلك.
إن شمولية التغيير وعدم اقتصارها على نوع واحد منه، هي الكفيلة بتقليل حالة الانتكاسة التي تواجه الشعوب عند التحديات التي تواجهها، وهي الوحيدة التي يمكن أن تصنع النماذج الفريدة، والتي لا تجلب للأمة إلا العز والانتصار، والحرية وعدم القبول بالاستبداد والطغيان
إن شمولية التغيير وعدم اقتصارها على نوع واحد منه، هي الكفيلة بتقليل حالة الانتكاسة التي تواجه الشعوب عند التحديات التي تواجهها، وهي الوحيدة التي يمكن أن تصنع النماذج الفريدة، والتي لا تجلب للأمة إلا العز والانتصار، والحرية وعدم القبول بالاستبداد والطغيان، تماماً كما قال الشاعر محمد إقبال:
كــنــا نــقــدِّم لـلـسـيـوف صــدورنــا لــم نـخـش يـومــاً غـاشـمـاً جـبــارا
لــم نـخـش طـاغـوتـاً يحـاربـنـا ولـــونــصــب الـمـنـايـا حـولـنــا أســــوارا
نـدعـو جـهـاراً لا إلــه ســوى الــذي صــنــع الــوجــود وقــــدَّرً الأقـــــدارا
ورؤوســنــا يــــا رب فــــوق أكـفـنــا نــرجــو ثــوابــك مـغـنـمـاً و جـــــوارا
كنـا نـرى الأصنـام مــن ذهــبٍ فـنـهدمــهــا ونــهــدم فـوقـهــا الـكــفــارا
لـو كـان غـيـر المسلمـيـن لحـازهـا كـنــزاً وصــــاغ الـحِـلــيَ والـدِّيـنــارا
إن تغيير النفوس بهذه الطريقة وإيجاد تلك النماذج الرائعة، كفيل بتحقيق التغيير عند الباقين، حتى لو يكونوا مؤمنين، لأن تفشي تلك الثقافة وشعور الناس بإيجابياتها مع توفر خطاب تربوي يرقى بالنفوس، ينقل تلك الآثار للباقين، بحيث تصبح ثقافة مجتمعية أكثر مما هي مختصة بدين أو شخص.
ونختم بقول سيد قطب رحمه الله مقارنا بين أهل مصر في عهد الفرعون والخلافة الراشدة، حيث يقول: ".. ولقد ضربت أبشار بني إسرائل في طاغوت الفرعونية حتى ذلوا. بل كان ضرب الأبشار هو أخف ما يتعرضون له من الأذى في فترات الرخاء! ولقد ضربت أبشار المصريين كذلك حتى ذلوا هم الآخرون واستخفهم فرعون!.
ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الفرعوني؛ ثم ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الروماني.. ولم يستنقذهم من هذا الذل إلا الإسلام، يوم جاءهم بالحرية فأطلقهم من العبودية للبشر بالعبودية لرب البشر..
فلما أن ضرب ابن عمرو بن العاص - فاتح مصر وحاكمها المسلم - ظهر ابن قبطي من أهل مصر - لعل سياط الرومان كانت آثارها على ظهره ما تزال - غضب القبطي لسوط واحد يصيب ابنه - من ابن فاتح مصر وحاكمها - وسافر شهراً على ظهر ناقة، ليشكو إلى عمر بن الخطاب - الخليفة المسلم - هذا السوط الواحد الذي نال ابنه! - وكان هو يصبر على السياط منذ سنوات قلائل في عهد الرومان - وكانت هذه هي معجزة البعث الإسلامي لنفوس الأقباط في مصر، وللنفوس في كل مكان - حتى لمن لم يعتنقوا الإسلام - كانت هذه هي معجزة هذا البعث الذي يستنقذ الأرواح من ركام آلاف السنين من الذل القديم، فتنتفض هكذا انتفاضة الكرامة التي أطلقها الإسلام في أرواحهم؛ وما كان غير الإسلام ليطلقها في مثل هذه الأرواح".