من دون أدنى شك، بات مصطلح "يهودية دولة الاحتلال" من المصطلحات كثيرة التداول على نشرات الأخبار، خصوصاً في ظل جولات التفاوض الماراثونية، التي لا يعلم الشعب الفلسطيني عنها أي شيء، سوى بعض التصريحات المتضاربة، والصور المختلفة. لكن الشيء الوحيد الذي يعلمه الشعب الفلسطيني جيداً أنها لم ولن تقدم أي تحسن ملموس، ولم تسترد حقوقهم أو تضمن لهم أياً منها.
ورغم أن المفاوض الفلسطيني ما زال يدور في ذات الحلقة المفرغة التي سلكها منذ عقود من الزمن، إلا أنه أصبح اليوم معتاداً على تقديم التنازلات تلو التنازلات، وسط اشتراطات صهيونية جديدة، تستغل ضعف المفاوض الفلسطيني، ووضعه الإقليمي، وتخليه عن الدعم الشعبي والثوابت الفلسطينية التي لا يختلف عليها أحد. وعلى رأسها، الأرض والمقدسات وعودة كل اللاجئين إلى أراضيهم كلها.
يهودية الدولة.. والبعد الديني
مخطئ من ظن يوماً أن دولة الاحتلال قامت على أساس سياسي بحت، دون الاعتماد على البعد الديني أو العقائدي، فدولة الاحتلال هي الدولة الوحيدة، التي يرتبط اسمها مع ديانتها مع قوميتها، وعلى هذا نشأت وعليه أكد قادتها على مر التاريخ.
ورغم كل محاولات إبعاد الأيدولوجيا عن الصراع، ووصفه بأنه صراع سياسي بحت، أو اقتصادي أو غيره، إلا أن الكيان الصهيوني لا يخفي حقيقة منطلقاته التي تتوافق مع تعاليم أحباره العنصرية، والتي تنظر إلى اليهود على أنهم شعب الله المختار، وأن غير اليهود هم عبيد وخدم يتشرفون بخدمة هذا الشعب المختار.
ففي كتاب الدين اليهودي، يقول "أشعيا" أحد أحبارهم عن غير اليهود: "بالوجوه إلى الأرض يسجد لك، ويلحسون غبار رجليك". وفي موضع آخر يقول: "يقف الأجانب ويرعون غنمكم، ويكون بنو الغريب حراثيكم وكراميكم، أما أنتم فتدعون كهنة الرب، تأكلون ثروة الأمم، وعلى مجدهم تتآمرون".
وانطلاقاً من هذا فلا غضاضة عند قادة الاحتلال أن تكون تصريحاتهم نابعة من هذا المنطلق الديني، الذي يقضي بإضفاء الطابع اليهودي، وتدمير ومحو أي شيء غير الديانة اليهودية.
فمؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل يقول: "إذا حصلنا يوما على مدينة القدس، وكنت لا أزال حياً وقادراً على القيام بأي عمل فسوف أزيل كل شيء ليس مقدساً لدى اليهود فيها، وسوف أحرق جميع الآثار الموجودة ولو مرّت عليها قرون".
وفي سبيل إقامة دولة يهود الدينية، قال أول رئيس للوزراء الصهيوني، بن غوريون، عقب إقامة دولة الاحتلال عام 1948: "ليست هذه نهاية كفاحنا، بل إننا اليوم قد بدأنا، وعلينا المُضي لتحقيق الدولة التي جاهدنا في سبيلها من النيل إلى الفرات".
حتى صاحب معاهدة كامب ديفيد، مناحيم بيغن قال مخاطباً شعبه: "لن يكون سلام لشعب إسرائيل، ولا في أرض إسرائيل، ولن يكون هناك سلام للعرب أيضاً، ما دمنا لم نحرر وطننا بأكمله من النيل إلى الفرات حتى ولو وقعنا مع العرب معاهدة الصلح".
والغريب والعجيب، أن المفاوض الفلسطيني ما زال مصراً على الاستمرار في جولات التفاوض والمساومة على الأوطان، رغم كل هذه التأكيدات على ما ينطلق منه قادة الاحتلال، ورغم القاعدة التي تُبنى عليه دولة الاحتلال، وهي المعتمدة على البعد الديني القائم على محو كل شيء غير اليهودية في فلسطين بأي سبيل كان.
لماذا يريدون يهودية الدولة..
المتابع للجولات التفاوضية والاشتراطات الصهيونية، لا يجد شرط الاعتراف بيهودية الدولة موجوداً في بدء الجولات التفاوضية، وإنما كانت دولة الاحتلال تريد من الفلسطينيين والعرب الاعتراف بشرعية وجود دولة الاحتلال، وحماية حدودها من الاعتداء، وفتح المجال لها للانطلاق نحو مراحل متقدمة من خلال تطبيع العلاقات، وجعل دولة الاحتلال كياناً مقبولاً داخل الوسط العربي والإسلامي.
لكن كان أول عودة لظهور هذا المصطلح في مؤتمر أنابوليس عام 2007، عن طريق "إيهود أولمرت. في حين يصر "بنيامين نتنياهو" رئيس حكومة الاحتلال الحالية على هذا الشرط، ويعتبره الشرط الأساسي لإنهاء حالة الصراع مع الفلسطينيين، وهو ما طبقه عملياً عبر تغيير مجموعة من القوانين خصوصاً قانون المواطنة، الذي أصبح يتضمن أداء قسم الولاء للدولة اليهودية، حتى يكتسب صاحبها الجنسية "الإسرائيلية".
وقبل طرح هذا الشرط في عام 2007، كانت هناك تمهيدات داخل الكيان الصهيوني، ففي عام 2003 أقر الكنيست الصهيوني قراراً يقضي بضرورة تعميق فكرة يهودية الدَولة وانتزاع اعتراف فلسطيني ودولي بها. حيث سعت الحكومات الصهيونية المتعاقبة منذ ذلك الزمن إلى انتزاع موافقة المُفاوض على شرطها الجديد.
هذا ولم تكتف دولة الاحتلال بطرح فكرة يهودية الدولة، بل وبدأت بتنفيذها على أرض الواقع وذلك من خلال البدء بتشريع قوانين عنصرية تهدف بشكلٍ أساسي إلى الحد من الوجود الفلسطيني داخل دولة الاحتلال وانتزاع حقوقهم شيئًا فشيئًا. كان آخرها مشروع قانون برافر الذي يقضي بتهجير الآلاف من أبناء النقب من قراهم وبلداتهم، بحجج واهية تدل بمجملها على أنها تستهدف الوجود العربي داخل ما يسمى بالخط الأخضر.
أما الأسباب التي دفعت اليهود للتأكيد على هذا الشرط والنتائج المترتبة عليه، فسنتحدث عنها في المقال القادم إن شاء الله.