لا يكاد يختلف اثنان على أن ما جرى في مصر قبل شهور عدة، يمثل طعنة غادرة في خاصرة الربيع العربي، الذي لم يلتقط أنفاسه، ولم يشعر بإنجازاته وحصاده.
ومما لا شك فيه، أن نظرية المؤامرة التي كان يرددها الثوار والإصلاحيون، والتي تحاك لإفشال تحرك الشارع العربي - الذي شعر بقوته وتأثيره، وخطورة ما وصلت إليه الأوضاع والأحوال في جميع الجوانب والمناحي – قد كانت صحيحة وحقيقية، خصوصاً أن الأمر لم يقتصر على مصر وحدها، بل تعدى ليشمل كل الدول، بطرق مختلفة وصور متعددة، لكنها في النهاية تحمل معنى واحداً، تتمثل بالعودة إلى ما قبل انطلاق الربيع العربي، ومحو آثاره وكأن شيئاً لم يكن!
وانطلاقاً من هذا الأمر، نجد البعض يردد أن الربيع العربي قد مات في مهده، في حين يكشف البعض عن نواياهم بأن الربيع العربي ما جر على الأمة إلا الويلات والانقسامات، وأن إزالة آثاره واجب وضروري، وأن على الأمة أن تسلم أمرها لحاكمها، مهما كان فساده وظلمه وانتهاكاته.
وقفة تأمل..
وهنا نحتاج إلى وقفة تأمل حول ماهية الربيع العربي، وما المطالب التي رفعتها الشعوب، وما السبب الذي يدفع البعض للظن بأنها لم تجلب على الأمة إلا الشر والمضرة.
الربيع العربي كان نتيجة حتمية لحالة الظلم والتهميش، والطبقية السياسية والاقتصادية، والقبضة الأمنية وما رافقها من انتهاكات واعتداءات، و يمثل رد فعل فيزيائي على بطش السلطة وظلمها.
الربيع العربي كان نتيجة حتمية لحالة الظلم والتهميش، والطبقية السياسية والاقتصادية، والقبضة الأمنية وما رافقها من انتهاكات واعتداءات، و يمثل رد فعل فيزيائي على بطش السلطة وظلمها، وهو ما حذر منه الكثير من الساسة والمفكرين، حتى البنا رحمه الله، كان قد حذر من اندلاع ثورة ليست من صنع الإخوان، وإنما من صنع الشعوب، جراء حالة الظلم ومصادرة الحقوق والحريات.
وعلى خلاف الانقلابات العسكرية، تتميز الثورات بأن لها مقدمات، وأن من يدرس الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي بشكل موضوعي قادر على التنبؤ بوقوعها، وانفجار الشعوب بوجه حكامها.
ولهذا شهدنا خلال الثورات التي اندلعت في دول الربيع العربي، تقارباً في المطالب والشعارات، لأنها تعبر عن حرية الإنسان كإنسان، بغض النظر عن جنسيته وطبيعة ظروفه، وهو ما أقض مضاجع المستبدين وعروشهم، إذ إن إحساس الإنسان العربي بإنسانيته التي فقدها، مقدمة لتحول كبير في النظرة والتعامل واختيار السلطة التي تمثله وتسير أموره.
أما موضوع الانقسام الذي جلبه الربيع العربي داخل الشعوب، فهو حالة طبيعية حينما تتمايز الصفوف، صفوف الحق والخير، وصفوف الاستبداد والشر، حينما يريد الشعب استعادة حرية سلبها الملأ من بني جلدتهم، وهي ليست فريدة في التاريخ، بل التاريخ مليئ بتلك الحالات التي تشهد على ذلك، كيف وقف الطغاة أمام الأحرار ليقتلوهم ويحاربوهم، وكيف وقف أعوان الطغاة ليثبطوا عزيمة الثائرين ويوقعوا بينهم، ويزينوا لهم حاكمهم وفعله، ليقنعوا به ويتركوا مطالبهم.
وكم يثير أعوان الطغاة خصوصاً المحسوبون على العلم الشرعي الدهشة والاستغراب، حينما يصفون دعاة الإصلاح والحرية والحق بأنهم قسموا شعوبهم أحزاباً وأمماً، وينسوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج داعياً من مكة إلى التحرر من عبادة الأوثان، وضحى بكل ما يملك هو وأصحابه حتى تكون كلمة الله هي العليا، وحقق الله له ما أراد هو وصحبه رضي الله عنهم.
إن البعض ينسى أن إرادة الخير وقوته، أقوى من جبروت الباطل وطغيانه، وأن دعاة الحرية لا يخوضون حرباً واحدة، ولا يعني انهزامهم بموقعة هنا أو هناك، أو تعرضهم للطعن والمؤامرة، انتهاء دعوتهم وحركتهم، فهذه ينفيها التاريخ ويؤكد عوار قائليها، إذ لأصحاب الحرية جولات مع المستبدين قبل نيلها بكل صورها، وفي كل جولة يتعلموا منها دروساً وعبراً كثيرة.
الربيع العربي ليس حالة سياسية فريدة تنتهي بثورة مضادة هنا، أو انقلاب هناك. إنه حالة وعي فريدة تضاف إلى العقل العربي، بحيث أثرت على تصرفات الشعوب ورؤيتها.
حي لم يمت..
الربيع العربي ليس حالة سياسية فريدة تنتهي بثورة مضادة هنا، أو انقلاب هناك. إنه حالة وعي فريدة تضاف إلى العقل العربي، بحيث أثرت على تصرفات الشعوب ورؤيتها. والربيع العربي ليس حالة صحوة انتهت بخروج الناس إلى الشوارع، بل له موجات ثورية معرفية وقيمية وسلوكية، يزرعها تضحيات القادة والأبطال، وسلوك السلطة، والأحوال الراهنة، وغيرها من الأمور.
وإجمالاً يمكننا أن ننفي ما يتحدث عنه البعض من وفاة الربيع العربي، ببعض من المشاهد والوقائع:
1- إن الربيع العربي كما قلنا هو حالة معرفية وقيمية، تؤثر على بعض الفئات الفاعلة في الشعب وليس كل الفئات، فبعض الفئات تفضل حياة الذل والمهانة لأنها تخاف من التغيير ودفع تكاليفه، وهي ليست المعنية فيه، لأنها تتبع من غلب وتملّك زمام الأمور. ولهذا فإن من أنار عقله بفلسفة الربيع العربي، والبحث عن إنسانيته المفقودة، ودوره المهمش لا يمكن أن يرضي بالتنازل عنها، وهو ما ينطبق على الثوار الحقيقيين، الذين صمودا ويصمدون كل يوم في الميادين المختلفة.
2- الصمود الأسطوري الذي أبداه المصريون، رغم كل ما وقع بهم من مجازر وانتهاكات، يؤكد على أن الربيع العربي ما زال في جذوته، بل لا ضير أن نقول أنه يعيش مرحلة ولادة حقيقية في مصر، تتمايز فيه الصفوف، وتتضح فيه المواقف، وتكشف فيه النوايا، وفي ذات الوقت يقدم فيه البعض صوراً رائعة من الصمود والثبات، يزيد من جذوة الثورة ويرفع من معنويات الأحرار في الشوارع.
3- شعور الشعوب بحالة المؤامرة ضدهم، خصوصاً بعد الانقلاب الذي جرى في مصر، ومحاولات الانقلاب الفاشلة في تونس وليبيا، مما يعني أن الشعوب باتت تدرك أهمية حريتها، ناهيك عن مشاهدتها لحالة التناقض والردة على الحرية، التي يظهرها أعوان الطغاة ضد خصومهم.