لقد كان من أعظم توجيهات الإسلام لتربية الفرد والجماعة الدعوة إلى تحمل المسئولية والقيام بها على أكمل وجه، ورتب على ذلك الفلاح في الدنيا والنجاة يوم القيامة.. قال تعالى: (فوربك لنسألنهم أجمعين، عما كانوا يعملون) (الحجر 92 /93) وقال تعالى: (وَقِفُوَهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) (الصافات / 24)، وقال الله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]..
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسئول عن رعيته). (البخاري (8/104)..
ولقد ضرب الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم الكثير من المواقف والأحداث على تحمل المسئولية قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20-21]. إنه رجل من أقصى المدينة يسعى لماذا يأتي؟ لإنقاذ الموقف، لإعلان كلمة الحق {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (يس:20-21) ليس له غرض، ولم يكن سعيه خوفاً من فوات صفقة تجارية -مثلاً- ولا خوفاً على نفسه أو روحه، بل بالعكس كان يسعى إلى حتفه وهو يعلم ذلك، لأنه قتل بسبب جهره بكلمة الحق، وتعزيزه لموقف النبيين المرسلين، فقتل فقيل له: ادخل الجنة، فدخل الجنة {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} (يس:26-27).. وقال سبحانه وتعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً) (الاسراء 13/14)..
والمسؤولية إما أن تكون فردية يقوم بها الفرد تجاه دينه وأمته ومجتمعه وأسرته وإما أن تكون جماعية تقوم بها الأسر والمجتمعات والشعوب والمنظمات والأحزاب والجماعات وهذا التباين بين البشر هدفه تحديد المسئوليات ومن يقوم بها قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 93].
الكل يدعي أنه يشعر بالمسؤولية تجاه دينه، تجاه نفسه، تجاه زوجته، تجاه أولاده، تجاه إخوانه المسلمين بنصرتهم والدعاء لهم، تجاه منصبه ووظيفته تجاه مجتمعه ووطنه وأمته.. الكل يدعي ذلك، لكن الواقع يوضح أن الفرق شاسع بين الإدعاء وبين الأداء والشعور بالمسؤولية وممارستها في واقع الحياة.. هذا سيدنا عمر ومعه سيدنا عبد الرحمن بن عوف يتجولان في المدينة، رأيا قافلةً في ظاهر المدينة، فقال لعبد الرحمن: تعال نحرسها لوجه الله، فإذا بطفل يبكي، فقال لأمه: أرضعيه، فأرضعته، ثم بكى، قال: أرضعيه، -يبدو أنه كان عصبي المزاج-، في المرة الثالثة قال: يا أمة السوء أرضعيه، قالت له: ما شأنك بنا إنني أفطمه؟ قال: ولمَ؟ قالت: لأن عمر -ولا تعلم أنه عمر- لا يعطينا العطاء إلا بعد الفطام، يروى أنه ضرب جبهته، وقال: ويحك يا بن الخطاب، كم قتلت من أطفال المسلمين؟ فلما صلى الفجر بالناس، ما سمع الناس قراءته من شدة بكائه، وأمر أن يعطى كل مولود في الإسلام راتب يجري عليه شهرياً.
وهذه مسؤولية المنصب وولاية أمر الناس وسياسة حياتهم وفي جميع شؤونهم فالواجب على من بلغ هذه المنزلة وهذه المرتبة أن يحفظ دينهم وأموالهم وأعراضهم وأن يجتهد في تربيتهم وتزكية أخلاقهم.. قال شيخ الإسلام: "الواجب بالولايات: إصلاح دين الخَلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينًا ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم" [السياسة الشرعية: 1/37]... هذا عمر بن عبد العزيز يعطي درساً في المسؤولية لعامله على بيت مال المسلمين في اليمن وهب بن منبه، فكتب وهب إلى عمر بن العزيز رضي الله عنه: إني فقدت من بيت مال المسلمين ديناراً. فكتب إليه: "إني لا أتهم دينك ولا أمانتك، ولكن أتهم تضييعك وتفريطك. وأنا حجيج المسلمين في أموالهم، ولِأدناهم عليك أن تحلف، والسلام"، وكأنه يقول له عليك أن تحلف بالله لجميع المسلمين أنك أضعت هذا الدينار دون أن يكون منك تفريط أو تقصير...
وقد بين صلى الله عليه وسلم خطورة الغلول وأن يأخذ المرء مالاً أو متاع ليس له فيه حق فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فذكر الغلول فعظمه، وعظم أمره، ثم قال: "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك.. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك.. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك شيئاً قد أبلغتك.. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك شيئاً، قد أبلغتك... لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رأسه رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك... لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت (الذهب والفضة)، فيقول: يا رسول الله، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك"، مسلم (1831)..
أين مسؤولية الوالدين تجاه أولادهما من التربية والرعاية والنصح والاهتمام، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، قال الطبري رحمه الله: "يقيهم؛ أن يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصيته، وأن يقوم عليهم بأمر الله يأمرهم به ويساعدهم عليه فإذا رأيت لله معصية ردعتهم عنها وزجرتهم عنها"، [تفسير الطبري: 12/156]...
وأين مسؤولية المعلم تجاه طلابه من أبناء المسلمين، وهل قام بواجبه وكان قدوة حسنة لهم.. وأين مسؤولية الموظف في إتقان الأعمال وإنجازها والحفاظ على ما تحت يده من أموال وغيرها.. أين مسئولية الأمن والجيش في حفظ أمن البلاد وحفظ الأموال والدماء والأعراض وحفظ سيادة البلاد والضرب بيد من حديد على المعتدين والمخربين والمفسدين في الأرض... وأين مسؤوليتهم في إحقاق الحق ونصرة المظلوم والدفاع عن الضعيف.. وأين مسؤولية القاضي والطبيب والمهندس وشيخ القبيلة.. أين مسؤولية الجميع.. قال الله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، قال السدي: "فلنسألن الأمم: ما عملوا فيما جاءت به الرسل؟ ولنسألن الرسل: هل بلغوا ما أرسلوا به؟"، [تفسير الطبري: 5/430]..
فلا يوجد أحد إلا وعليه مسؤولية فردية يجب أن يقوم بها ويؤديها ولا تسقط عنه تحت أي مبرر إذا كان قادراً عليها.. يقول ابن مسعود: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ عليّ القرآن"، قال قلت: يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: "إني أشتهي أن أسمعه من غيري"، فقرأت النساء، حتى إذا بلغت قوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) [النساء: 41]، هناك غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه -صلى الله عليه وسلم- تسيل على وجنتيه) (رواه البخاري)... إن استشعار الموقف والمسؤولية في ذلك اليوم العظيم، يوم القيامة، هو الذي جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يبكي حتى سالت دموعه على وجنتيه الشريفتين.
إن الواجبات كثيرة والمسؤوليات عظيمة وإنها ليسيرة على من يسرها الله له وذلك بصدقه وإخلاصه واستشعاره للأمانة الملقاة على عاتقه والتي يسأل عنها يوم القيامة قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُون} (الصافات21-23)... لقد ضاعت حضارتنا وفسدت أحوالنا وضعف إنتاجنا عندما بنينا حياتنا على ثقافة التبرير والتنصل من المسؤوليات، وإن طريق الفلاح والنجاح والإنتاج والبناء تبدأ في أي مجتمع من المجتمعات أو شعب من الشعوب عندما يدرك كل فرد واجباته ومسؤولياته ويقوم بها وهو بذلك يؤدي واجباً دينياً ومطلباً ضرورياَ في الحياة..
وهناك مسؤوليات جماعية يقوم بها جميع الناس في المجتمع سواء كانوا أحزاب أو منظمات أو جماعات وهي من الأهمية بمكان والتفريط بها والتساهل في القيام بها يؤدي إلى فساد المجتمعات وزوال الحضارات وكثرة الصراعات وقد تتعطل الحياة في كثير من جوانبها المختلفة..
ومن هذه المسؤوليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخيرية الأمة تبدأ من هنا قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران:110]..
وحرية الفرد يجب أن لا تعارض مصلحة الجماعة، والسكوت عن الأخذ على يدي الظالم والمعتدي والمفسد في الأرض جريمة كبيرة وخلق سيء وآثاره مدمرة على الجميع، ولذلك جعل سبحانه وتعالى هذه الصفة من صفات المؤمنين الهامة والضرورية، فقال سبحانه: (التَّآئِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمرون بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة/112).. ومما أُثر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قوله: (كان يُقال: إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصَّة ولكن إذا عُمِل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم)، إن وجود المصلحين في الأمة هو صمَّام الأمان لها، وسبب نجاتها من الهلاك العام، ولهذا قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود: 117) ولم يقل صالحون...
ومن هذه المسؤوليات الجماعية حفظ السلم الإجتماعي ونشر الأمن والمحافظة على الدماء والأعراض والأموال والتآلف والتآخي والتراحم ونبذ العصبية والفرقة والنعرات الجاهلية سواء كانت حزبية أو مذهبية أو مناطقية.. إن بناء الأوطان يحتاج إلى التعاون والتوافق على الأقل في الثوابت التي تحفظ الدين والأرض والإنسان ولا بأس أن نختلف في طرق العمل ووسائل البناء وأساليب العمل والإنجاز فهذه حقيقة بشرية لا يمكن أن تنتهي من أي مجتمع...
ومن هذه المسؤوليات الجماعية مسؤولية التقيد والإلتزام بالأنظمة والقوانين التي تنظم حياة المجتمع وتطبيقها على جميع الناس وهذا دليل على التطور الثقافي والإجتماعي الذي وصلت إليه الدول والشعوب والمجتمعات... ولا حياة سليمة وراقية ومزدهرة إلا بقوانين تنظم علاقات الناس مع بعضهم وعلاقاتهم مع غيرهم وواجباتهم وحقوقهم.. والغرب والشرق لم ينهض ولم يتطور إلا بقوانين نظمت حياتهم فكيف ونحن أمة النظام والقانون فديننا الحنيف نظم جميع جوانب الحياة وعندما التزمها المسلمون كانوا بناة حضارة عريقة ما زالت مآثرها إلى اليوم..
وهناك مسؤولية الإعلام فدوره كبير في توجيه الرأي العام، وفي ترسيخ القناعات حسنها وقبيحها، وعلى أهل الإعلام أن يعوا هذا الخطر العظيم، وأن يعرفوا أن على عاتقهم مسؤولية عظيمة، إن لم يقوموا بها حق القيام فإن كثيرًا من المبادئ والقيم الحسنة ستختفي من النفوس وتضيع الكثير من الحقائق وتزور الكثير من الوقائع.. عندها تحدث الكثير من المشاكل والاختلالات والفتن والصراعات.. فأين التربية على القيم والأخلاق وأين التربية وتوجيه الجماهير للتنافس على بناء الأوطان.. وأين الإعلام الذي يعزز الأمن وحب الإنتماء للوطن وينشر المحبة ويحارب العصبية والفرقة بين الناس...
أدوا الحقوق وقوموا بالواجبات والمسؤوليات وأدوها كما أمرتم واحذروا ثقافة التبرير للأخطاء والتقصير في الأعمال وأحسنوا العمل وانشروا الخير وأصلحوا ذات بينكم تفلحوا في الدنيا والآخرة...
اللهم ألف على الحق قلوبنا وأصلح فساد أحوالنا وولي علينا خيارنا برحمتك يا أرحم الراحمين... هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.