من الأسباب المعينة على حُسن الظن
هناك العديد من الأسباب التي تعين المسلم على إحسان الظن بالآخرين، ومن هذه الأسباب:
1- الدعاء: فإنه باب كل خير، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل ربه أن يرزقه قلبًا سليمًا.
2- إنزال النفس منزلة الغير: قال ابن القيم رحمه الله -وما رأيت أحدًا قطُّ أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه، وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: (وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه! وما رأيته يدعو على أحدٍ منهم قطُّ، وكان يدعو لهم). قال: (وجئت يومًا مبشّرًا له بموتِ أكبر أعداءه، وأشدّهم عداوةً وأذىً له، فنهرني، وتنكّر لي واسترجع. ثم قام من فوره إلى أهل بيته -أي ذلك الخصم الذي مات- فعزّاهم، وقال: (أنا لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه).. فسُّروا به ودعوا له، وعظّموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه). انظر: خالد بابطين: نشر الورود والرياحين بإصلاح ذات البين 7.
3- حمل الكلام على أحسن المحامل: فها هو الإمام الشافعي رحمه الله حين مرض وأتاه بعض إخوانه يعوده، فقال للشافعي: قوى لله ضعفك، قال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني، قال: والله ما أردت إلا الخير. فقال الإمام: أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير. فهكذا تكون الأخوة الحقيقية إحسان الظن بالإخوان حتى فيما يظهر أنه لا يحتمل وجها من أوجه الخير.
هكذا كان دأب السلف رضي الله عنهم. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً".
4- التماس الأعذار للآخرين: فعند صدور قول أو فعل يسبب لك ضيقًا أو حزنًا حاول التماس الأعذار، واستحضر حال الصالحين الذين كانوا يحسنون الظن ويلتمسون المعاذير حتى قالوا: التمس لأخيك سبعين عذرا.
• قال ابن سيرين رحمه الله: "إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرا، فإن لم تجد فقل: لعل له عذرا لا أعرفه".
• قال أحدهم:
سَامِحْ أَخَاكَ إِذَا وَافَاكَ بِالْغَلَطِ
وَاتْرُكْ هَوَى الْقَلْبِ لا يُدْهِيْكَ بِالشَّطَطِ
فكم صَدِيْقٍ وفيٍّ مُخْلِصٍ لَبِقٍ
أَضْحَى عَدُوًّا بِمَا لاقَاهُ مِنْ فُرُطِ
فَلَيْسَ فِي النَّاسِ مَعْصُوْمٌ سِوَى رُسُلٍ
حَمَاهُمُ اللهُ مِنْ دَوَّامَةِ السَّقَطِ
لَسْتَ تَرْجُوْ مِنَ الرَّحْمَنِ مَغْفِرَةً
يَوْمَ الزِّحَامِ فَسَامِحْ تَنْجُ مِنْ سَخَطِ
إنك حين تجتهد في التماس الأعذار ستريح نفسك من عناء الظن السيئ وستتجنب الإكثار من اللوم لإخوانك
تأن ولا تعجل بلومك صاحباً
لعل له عذرًا وأنت تلوم
5- تجنب الحكم على النيات: عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يُحَدِّثُ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْحُرَقَةِ، مِنْ جُهَيْنَةَ، قَالَ: فَصَبَّحْنَاهُمْ، فَقَاتَلْنَاهُمْ، فَكَانَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، إِذَا أَقْبَلَ الْقَوْمُ كَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ عَلَيْنَا، وَإِذَا أَدْبَرُوا كَانَ حَامِيَتَهُمْ، قَالَ: فَغَشِيتُهُ، أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: فَلَمَّا غَشِينَاهُ، قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِيُّ، وَقَتَلْتُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا مِنَ الْقَتْلِ، فَكَرَّرَهَا عَلَيَّ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ. أخرجه أحمد 5/200(22088) و"البُخَارِي" 5/183(4269) و"مسلم" 1/67(190).
وهذا من أعظم أسباب حسن الظن؛ حيث يترك العبد السرائر إلى الذي يعلمها وحده سبحانه، والله لم يأمرنا بشق الصدور، ولنتجنب الظن السيئ.
6- استحضار آفات سوء الظن وعدم تزكية النفس: فمن ساء ظنه بالناس كان في تعب وهم لا ينقضي فضلاً عن خسارته لكل من يخالطه حتى أقرب الناس إليه؛ إذ من عادة الناس الخطأ ولو من غير قصد، ثم إن من آفات سوء الظن أنه يحمل صاحبه على اتهام الآخرين، مع إحسان الظن بنفسه، وهو نوع من تزكية النفس التي نهى الله عنها في كتابه: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم:32].قال سفيان بن حسين: (ذكرت رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية، فنظر في وجهي، وقال: أغزوتَ الرومَ؟ قلت: لا، قال: فالسِّند والهند والترك؟ قلت: لا، قال: أفَتسلَم منك الروم والسِّند والهند والترك، ولم يسلَمْ منك أخوك المسلم؟! قال: فلَم أعُد بعدها). البداية والنهاية لابن كثير (13/121). وقال أبو حاتم بن حبان البستي في روضة العقلاء (ص:131): (الواجبُ على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإنَّ من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنَه ولم يُتعب قلبَه، فكلَّما اطَّلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من أخيه، وإنَّ من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه وتعب بدنه وتعذَّر عليه ترك عيوب نفسه).
التدريب على حسن الظن
ونعني بالتدريب، تعلُّم حسن الظن، وهذا ما كان يلقنه النبي- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، يروي البخاري أن رجلاً جاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: إن امرأتي ولدت غلامًا أسودَ، فقال - صلى الله عليه وسلم -.
هل لك من إبل؟ قال نعم قال فما ألوانها قال حمر، قال هل فيها من أوراق أى سود قال نعم، قال فأنى أتاها ذلك، قال عسى أن يكون نزعة عرق، قال فكذلك ابنك عسى أن يكون نزعة عرق.
ونستنتج من ذلك أن النبي المعلم - صلى الله عليه وسلم - أخذه في دورة تدريبية تثقيفية، حتى يمتلك المعرفة السليمة.
وعَنْ أَسْلَمَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ الله صلى الله علية وسلم، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله علية وسلم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله علية وسلم: لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ. أخرجه البُخَاري 8/197(6780).
ما أحوج مجتمعاتنا إلى الأخذ بحسن الظن سواء على المستوى الفردي أو بين الجماعات فنحن نواجه مشكلة في العلاقة بين الجماعات، كل جماعة تسيء تفسير تصرف الجماعة الأخرى، ولعل تصرفاً فردياً يصدر من أحد الأفراد فيحسب على الجماعة بأكملها وهذا غير صحيح، من أخطأ هو من يتحمل المسؤولية.
ترى من يحكم على عمل ما بأنه حسن ويدعمه بكل قوة ما دام من قام به شخص من دائرته، ولكن متى ما قام شخص ما بنفس العمل ولكنه من دائرة غير التي ينتمي إليها فالحكم هنا يكون بالعكس.
ينبغي على كل إنسان مؤمن عاقل أن يتجاوز هذه الحالة وينظر إلى الآخرين نظرة إيجابية، ولو جال في خاطره تصور خاطئ على شخص ما فعليه أن لا يبنيَ عليه موقفاً قد يضر أو يسيء به إلى الآخر، فذاك إثم وظلم نهى عنه الشرع القويم، ويرفضه العقل السليم.
إن إحسان الظن بالناس يحتاج إلى كثير من مجاهدة النفس لحملها على ذلك خاصة وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ولا يكاد يفتر عن التفريق بين المؤمنين والتحريش بينهم وأعظم أسباب قطع الطريق على الشيطان هو إحسان الظن بالمسلمين.
قال بكر بن عبد الله المزني كما في ترجمته من تهذيب التهذيب: "إيَّاك من الكلام ما إن أصبتَ فيه لَم تُؤجَر، وإن أخطأت فيه أثمت، وهو سوء الظنِّ بأخيك".
ندعو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يحسن الظن بإخوانه، إنه سميع مجيب، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.