في ذكراه .. محمد الغزالي وحديثه عن الثورات

الرئيسية » حصاد الفكر » في ذكراه .. محمد الغزالي وحديثه عن الثورات
وصفي

في شهر آذار/ مارس تمر بنا ذكرى وفاة رجل حبيب إلى قلوبنا عزيز على أنفسنا، نذر نفسه للدعوة إلى الله، والجهاد من أجل إعزاز رسالة الإسلام، والدفاع عنه في كل ميدان، ورد الشبهات عن حماه، إنه العالم الداعية المجاهد المجدد المفكر الشيخ محمد الغزالي رحمة الله عليه.

ولقد نذر الشيخ المجدد ـ يرحمه الله ـ نصف حياته الفكرية الأول لبيان مفاسد الاستبداد والمستبدين، ومقاومة الزحف الأحمر والمذاهب الفكرية الهدامة، في حين كان نصف حياته الأخير متمحورًا حول كشف عوار الفكر “الأحول”، وبيان زيف التدين المغشوش، والتحذير من الفهم المغلوط للإسلام.

ومن خلال معرفتي المتواضعة بتراث الشيخ الغزالي ـ رضي الله عنه ـ رأيت أن نتحدث في هذه المناسبة عن رؤيته للثورات والثوار، لاسيما وأمتنا العربية تمر بعصر الثورات الشعبية التي أجرى الله تعالى قدرها على هذه الأمة في هذا الوقت بعد أن صلِيَت الشعوب نار الظلم والقهر ونهب مقدرات البلاد؛ فها هو الشيخ الغزالي يحدثنا من قبره عن الثورات، وعن أسبابها، وعن مفاهيم الخروج على الحكام، ووظيفة الحاكم والحكومة، وعن شروط نجاح الثورات، وعن ضوابط تحكمها وترشِّد سيرها، وغير ذلك مما هو مبثوث في كتبه، ومنثور في تراثه.

أسباب الثورات ومطالب الثوار

يرى الشيخ الغزالي أن أسباب الثورات هي: شيوع الظلم، ومصادرة الحريات، وسلب ضرورات الجماهير، يقول: “العدل هو المساواة التي لا تعطي أحدا حقًّا ليس له، ولا تبخس إنسانًا شيئًا من مقومات حياته الكريمة!. غير أن الدنيا كانت عند سوء الظن بها! فما لبثت حقوق الأمم المعقولة أن وضعت على موائد المترفين، فأكلوها أكلا لَمًّا، وسلب الألوف ضروراتهم ليُتخَم بها أفراد، وصودرت حرياتٌ شتى ليشبع طغيان الكبر عند الأوغاد، وقد تُقلب بعض صحائف التاريخ فتسمع بها ضجيج الثوار الذين حطموا الأصنام، وهتكوا حجاب الخرافات المقدسة، ولكن صحائف التاريخ الطويلة، عليها صمت مريب، كأنما هو صمت القبور، التي ماتت فيها الآمال، وذلت فيها الرجال من طول ما توارثت البشرية من عسف وطغيان وتشريد”(1).

ومن أسبابها أيضا شيوع حكم الفرد، يقول: “ونحب أن نقول بجلاء: إنه حيث يسود الحكم المطلق تنتقض الإنسانية من أطرافها، بل من صميمها”(2).

وفي مقام آخر يبين فيه أن سر نجاح الثورات مرتبط بظهور غصب حقوق الناس، وفشوِّ أكل أموالهم بالباطل، يقول: “إن الأمة التي يفشو فيها أكل أجور العامل، وغصب حقوقه الواضحة، ليست الأمة التي تعيش في ضمان السماء، أو التي تتوقى نكبات الحياة، أو التي إذا أصابها حرج توقع لها الفرج، بل على العكس، لا تكاد تتردى في هاوية حتى تجد من يتقدم ليهيل عليها التراب لا لينجدها: (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون). وذلك سر نجاح الثورات الكبرى في هذه الحياة!. إنها تندلع في نظم قد دب فيها البلى، وطال منها الظلم، وابتعد عنها التوفيق، وأدبر عنها النجاح، فما تكاد نذر التمرد على الطغيان والاستبداد تظهر في الأفق حتى يفغر التاريخ فمه ليبتلع دولة شاخت، ويسلكها في عداد الذكريات المرة، وليتأذن بميلاد دولة جديدة ونظام جديد تتعلق به آمال البشر كرة أخرى”(3).

ويبين الشيخ الحالة النفسية والواقعية للثوار حين تحقُّق الثورة كرد فعل على طول وقوع الظلم عليهم والعسف بهم: “ما إن اندلعت الثورات في القرن الأخير حتى تطلعت الجماهير إلى مساواة خيالية! كالظمآن الذي طال عليه العطش، فلما وقع على الماء أخذ يعب ويعب حتى خرج الري من أظافره”(4). وهو ما نشهده رأي العين في واقعنا المعاصر.

وفي الوقت نفسه يستبعد الشيخ الإمام، بل يرفض، إلباس الثورات ثوب الاضطهاد الديني سببًا لها، وهو ما يتصل بالواقع المصري وما شابهه بشكل أو بآخر، يقول: “وإلباس الثورة في مصر ثوب الاضطهاد الديني محاولة فاشلة لجعل تاريخ الإسلام مشابها لتاريخ النصرانية في التعصب ضد الأقليات”(5).

الحاكم والخروج عليه

وفي سياق الثورات وبعد بيان أسبابها يحسن أن نورد تكييف الشيخ لوضعية الحاكم ووظائفه في الإسلام، وكذلك الحكومة وواجباتها نحو الأمة، يقول: “وظيفة حاكم ما في أي بلد مسلم، أن يحرس الإيمان ويقيم العدالة ويصون المصالح، فإذا فرط في أداء هذه الواجبات فقد قصر في أعمال وظيفته، ووجب تنبيهه وإرشاده، أما إذا هدم الإيمان بالإلحاد، وأضاع العدالة بالجور، وأهمل المصالح باللهو، فقد خرج عن طبيعة وظيفته ووجب إسقاطه”(6).

ويبين متى ينحل العقد الذي بين الحاكم والمحكومين، فيقول: “والأمة في حل من السمع والطاعة بداهة إذا حكمت على أساس من جحد الفرائض، وإقرار المحرمات ونهب الحقوق وإجابة الشهوات؛ لأن معنى ذلك أن الحكم قد مرق من الإسلام وفسق عن أمر الله، وأن الحاكمين أنفسهم قد انسلخوا عن الدين، فليس لهم على أحد عهد !!”(7).

ويبين بإدراك تحليلي لما يبدأ عليه أمر الحاكم حين توليته، وما يؤول إليه حاله فيما بعد، فيقول: “وللحكم إغراء يزين لمتوليه أن يتخفف رويدا رويدا من تبعات الفضيلة والعفاف، وما أكثر ما يذكر الحاكم شخصه وينسى أمته، وما أسرع أن ينسى مثله العليا ويهبط عنها قليلا قليلا، وما أيسر أن يستخدم سلطانه الواسع في غير ما منح له!!. بيد أن دين الله إن حاف عليه الولاة الطاغون فيجب أن ينتصب له في كل زمان ومكان من يذودون عنه ويصونون شريعته، ولو تحملوا في ذلك الويل والثبور”(8).

وهذا الذود وذاك الصون له ضريبته وثمنه كما ذكر الشيخ، ويؤكد دائما على هذا المعنى فيقول: “وليس هذا التغيير سهلا؛ فإن الأيدي الحمراء وحدها هي التي تصنعه! الأيدي التي عناها الشاعر يوم قال: وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق”(9).

معنى الخروج على الحاكم وحقيقته

ولا يخفى على أحد الفتاوى المغلوطة التي نتصبح بها ونتمسى في هذه الآونة من بعض المنتسبين إلى العلم الشرعي، الذين يعلنون أن هذه المظاهرات هي خروج على الحاكم، وخرق لطاعة ولي الأمر، وأنها بدعة .. إلى غير ذلك من هذه التأويلات الفاسدة والتنزيلات الباطلة.

ولهذا يحرر الشيخ معنى الخروج على الحاكم مراعيًا تطور دلالات المصطلحات، فيقول: “وكلمة الخروج على الحاكم كانت قديمًا تعنى شهر السلاح في وجهه، ولا أظن أحدا ينتظر من الإسلام أن يبيح هذا الحق لمن يشاء متى يشاء، وكل ما ذكره الإسلام في إطفاء بذور الحرب الأهلية قول الرسول: “ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهى جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان “، وهذا حديث لا غبار عليه، وأرقى الأمم الدستورية تعمل بوحيه في أيام حربها وسلامها، فإن حق الثورة المسلحة ليس كلأً مباحا يرعاه كلُّ غضبان، أما اعتبار المعارضة المشروعة خروجًا على الدين وحكومته يُقتل من أجلها المعارض استدلالاً من الحديث السابق فهو ما لا موضع له في أدمغة العلماء؛ إن السفلة من الحكام قتلوا كثيرًا من الناس جريًا على طبائع الاستبداد لا اتباعا لأحكام الله، فلا ينبغي الاعتذار للمجرمين بأنهم تأولوا آيات الكتاب وأحاديث الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فهم لا يعرفون لله حقًّا، ولا لرسوله حرمة، وقبيح بنا هذا الانتحال”(10).

ولو كانت الأمة متيقظة لأداء حاكمها أبدًا، وتأخذ على يديه دائما لما وصلنا إلى هذا الحد من سفك الدماء التي قام بها السفلة من الحكام ـ على حد تعبير الشيخ ـ ولهذا فالفرق بيننا وبين الغرب هائل في هذا السياق، وقد ألمح الشيخ إلى ذلك حين قال مقارنًا بيننا وبينهم: “وإسقاط حكومة ما في البلاد التي تسودها النظم الديمقراطية عمل معتاد، وفى الغرب شواهد متجددة على أن استبدال وزارة بأخرى أمر هين، وسحب الثقة من أية وزارة هناك يرجع إلى رغبة الشعب في تحقيق مطالب معينة أو رؤية لون جديد من النظم والأفكار.. وقلما تسقط حكومة هناك لخروجها عن طبيعة وظيفتها، فإن يقظة الأمم هناك، وأمانة الحكام لا تسمحان بتطور الأمور على هذا النحو القاتم! وليت الأمور في الشرق تجرى على هذا النسق الرتيب فيستريح الحاكم والمحكوم من اضطراب الأجواء وعصف الأنواء”(11).

ضوابط للثورات

وحتى تؤتي الثورات ثمارها، وتحقق غاياتها، وتلبي تطلعات الشعوب التي قامت من أجلها، فقد تحدث الشيخ عن سياسة عامة لا يصح أن تغيب عن عقول المصلحين أثناء الثورات، وأورد ضوابط أخلاقية يجب أن ينضبط بها الثوار حتى لا نسيء من حيث أردنا الإحسان، يقول الشيخ: “على أن لقول الحق وغرسه في المجتمع سياسة لا ينبغي أن تغيب عن أذهان الدعاة والمصلحين، فليس الهدف المقصود أن يستقتل المرشدون من غير جدوى، وأن يضحوا بغير ثمرة؛ فذلك ما لا ينتفع به الحق، ولا يضار به الباطل، وقد رأى الفقهاء أن إزالة المنكر إذا استتبعت مفسدة أعظم، فمن الخير التربص بها وارتقاب الفرص السانحة لها، والسكوت حينئذ ليس سكوت مجبنة وتخوف، ولكنه ترسم سياسة أفضل في حرب المنكر كما قال الله تعالى: “وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ”. كما أن الحماسة للخير لا تعنى السفاهة على الناس، وسوء الأدب في عشرتهم، والمتاجرة بأخطائهم؛ بغية فضحهم والتشهير بهم، فذلك كله ليس خلق المسلم ولا منهجه في تدعيم الجماعة ورفع شأنها، فالحرية المطلوبة حدها الأعلى أن نتمكن من قول الحق، لا أن نتمكن من التطاول والبذاء!”(12).

شروط نجاح الثورات

ونجاح الثورات والنهضات مرهون بشروط متى تحققت نجحت الثورة، ومتى غابت لم تُحقق الثورة نجاحًا يذكر؛ ولهذا يرى الشيخ أن من شروط نجاحها التمهيد لها بأدبيات تملأ النفوس وتشحذ العقول وتحمس الهمم بما يحقق يقظة إنسانية عالية وشاملة، يقول الشيخ: “إن نجاح النهضات وبقاءها يرتبطان بمقدار ما تستند إليه من مشاعر وأفكار، بل إن الارتقاء الصحيح لا يكون إلا معتمدًا على خصب المشاعر ونضارة الأفكار؛ ولذلك لابد في الثورات الاجتماعية الكبرى من ثورات أدبية، تمهد لها، وتملأ النفوس والعقول إيمانًا بها.. وقد تعتري الأمم هزات موقوتة، أو انكسارات وانتصارات سريعة، وقد يصيب الحضارات مد وجزر لأسباب شخصية أو محلية، وذلك كله ينظر إليه المؤرخون نظرة عابرة، ولا ينتظرون من ورائه نتائج بعيدة المدى، أما النهضات التي تصحبها يقظات إنسانية واسعة، وتحف بها عواطف جياشة ونظرات عميقة؛ فهي أمر له خطره، وله ما بعده”(13).

كما أن من شروط نجاحها ـ عند الشيخ وعند العقلاء ـ تحقق الوحدة على اختلاف المشارب والأفكار، فمتى تخلى الجميع عن رؤاه الخاصة ومكاسبه المحدودة، وذاب مع غيره في إطار تحقيق هدف واحد ومصلحة كبرى تحقَّقَ النجاح بلا ريب؛ ولهذا قال تعالى: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا”، أما حين تجتمع الأجساد وتتفرق العقول والأرواح فهنا يكون الفشل المؤكد، ويقوم المرتزقة بسرقة الثورات ووراثتها، يقول الشيخ: “سمعت قائلا يردد في ألم : نحن متفرقون على حقنا، وهم مجتمعون على باطلهم! فقلت له: ما أحسب المتفرقين على حقهم أصحاب حق، فطبيعة الحق أن يجمع أهله! إن أعدادا كبيرة من السائرين تحت لواء الحق تكمن في بواطنهم أباطيل كثيرة، فهم يحتشدون بأجسامهم فقط تحت رايته، ويبدو أن المآرب الكثيرة، والأغراض المختلفة، تجعل لكل منهم وجهة هو موليها، وذاك في نظري ما جعل ثورات عديدة تسرق من أصحابها، ويسير بها الشطار إلى غاية أخرى! حتى قيل: الثورات يرسمها المثاليون وينفذها الفدائيون ويرثها المرتزقة!! ترى لو كان المثاليون والفدائيون على قلب رجل واحد في الإيثار والتجدد أكان يبقى للمرتزقة موضع قدم؟. إن أخطاء خفية، نستخف بها عادة، هي التي تنتهي بذلك المصير!”(14).

نصيحة للحكام والمرشحين للحكم

وفي النهاية نورد نصيحة يوجهها الشيخ المجاهد للحكام ومن يرون أنفسهم أهلا لتولي الحكم، وهي نصيحة أحسب أنها في وقتها الآن ـ وفي كل آن ـ للحكام الذين يعاندون القدر، أو لمن سيأتي للحكم في البلاد التي نجحت فيها الثورات، يقول الشيخ ـ وما أحسن ما قال!! ـ: “إلى الحكام والمرشحين للحكم: دعوا مواكب الإسلام تمر بألويتها إلى ما تريد…! لا تحرصوا على كل شيء فتفقدوا كل شيء... اقبلوا حكم الدين في دنياكم… قبل أن تسلبكم الثورات الحاقدة كل رحمة في الدين، وكل متعة في الدنيا”(15).

هكذا تحدث إمامنا المجدد الثائر على الظلم والظالمين الشيخ محمد الغزالي عن الثورات في ضوء ما سبق من ثورات في العالم، لكن حديثه عنها لم يزل صالحا لاستلهامه في ثورات معاصرة أو ثورات تالية، وهذا مستمد من الفكر الإسلامي الذي نشأ في حضن القرآن وتحت راية السنة؛ ولهذا يستمد خلوده من خلودهما، فرحمة الله عليه.

-------------------------------------------------------

الهوامش:

(1) الإسلام المفترى عليه: 46. طبعة نهضة مصر، وكل الطبعات التي اعتمدنا عليها هي طبعة نهضة مصر.

(2) من مقالات الشيخ محمد الغزالي: 1/66.

(3) الإسلام والمناهج الاشتراكية: 190.

(4) الإسلام المفترى عليه: 46..

(5) التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام: 239.

(6) الإسلام والاستبداد السياسي: 160.

(7) الإسلام والاستبداد السياسي: 162.

(8) الإسلام والاستبداد السياسي: 163.

(9) تأملات في الدين والحياة: 25.

(10) من هنا نعلم: 51.

(11) الإسلام والاستبداد السياسي: 160.

(12) الإسلام والاستبداد السياسي: 164.

(13) نظرات في القرآن: 12.

(14) الحق المر: 1/57-58.

(15) الإسلام والمناهج الاشتراكية: 20.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

قراءة سياسية في عبادة الصيام

عندما نضع الصيام في سياق العبادة في الإسلام نجد أن العبادة وسيلة تحقق غايات عليا …