كنا قد تحدثنا في المقال السابق عن الأبعاد التاريخية ليهودية دولة الاحتلال، والإجراءات التي قام بها الكنيست الصهيوني لترسيخ مفهوم يهودية الدولة، وجعله واقعاً ينبغي الاعتراف به.
لكن لماذا يصر الاحتلال الصهيوني على هذا الشرط في هذا الوقت، وما الآثار المترتبة عليه؟
أسباب اشتراط يهودية الدولة..
1- تطبيق ما يتوافق مع معتقداتهم وموروثاتهم الدينية، فاليهود كما أسلفنا لديهم في موروثاتهم الدينية المحرفة، ما يجعل منهم سادة العالم بحيث لا يقبلون الاختلاط مع الآخرين، كونهم مميزين عنهم. ناهيك عن أن اليهود لا ينظرون إلى فلسطين من منظور سياسي بحت، بل ينظرون إليها من منظور ديني وعقائدي، وهو ما يعني ضرورة صبغ الدولة بالصبغة الدينية اليهودية.
2- استغلال الواقع العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً، فدولة يهود تجاوزت مرحلة إثبات الوجود، والقبول بتواجدها، عبر المبادرات العربية، والمفاوضات والاتفاقيات مع السلطة الفلسطينية، إلى مرحلة القبول بالتعامل معها، واعتبارها أمراً واقعاً، الأمر الذي دفع دولة الاحتلال إلى رفع سقف مطالبها، والتصريح دون خجل حول ماهية دولتهم، والتي تعتمد على الديانة والقومية، دون النظر إلى أصحاب الأرض الحقيقيين، وما أوقعه الاحتلال عليهم من مآس ونكبات.
إن الكيان الصهيوني، يستغل الانبطاح العربي وخصوصا الفلسطيني، في رفع مطالبه واشتراط شروط جديدة، لإرغام الطرف الآخر على القبول بذلك
إن الكيان الصهيوني، يستغل الانبطاح العربي وخصوصاً الفلسطيني، في رفع مطالبه واشتراط شروط جديدة، لإرغام الطرف الآخر على القبول بذلك، الأمر الذي يقود المفاوضات معه من فشل إلى فشل جديد.
3- تطهير الوضع الداخلي من الوجود الفلسطيني، حيث إن أعداد الفلسطينيين باتت تشكل مصدر قلق لدولة الاحتلال، خصوصاً وأنها أصبحت تقارب ما يزيد عن خمس السكان، مما يهدد التركيبة الديمغرافية للكيان الصهيوني، وربما يعتبر هذا الأمر هو واحد من أهم الأسباب التي دفعت الاحتلال للتمسك بهذا الشرط في الوقت الحالي.
و لهذا تسعى دولة الاحتلال إلى تغليب العنصر اليهودي في الداخل. وذلك عبر التضييق على الفلسطينيين وتهجيرهم، أو حتى اقتراح مبادلة الأراضي مع السلطة الفلسطينية، بحيث تتخلص من عدد كبير من الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني.
وهذا ما أكد عليه وزير الخارجية الأمريكي، حينما قال: «الديناميات الديموغرافية في "إسرائيل" شكلت تهديداً وجودياً... يجعل من المستحيل على "إسرائيل" أن تحافظ على مستقبلها كدولة ديمقراطية يهودية».
وهذا الأمر يعكس حالة التخوف الصهيونية من جعل دولة الاحتلال دولة ثنائية القومية، تنقسم بين اليهود، وبين العرب أصحاب الأرض، والذين يزدادون بشكل أسرع ومقلق لسلطات الاحتلال.
وفي مقال نشرته مجلة «فورين بوليسي» للباحث المشارك في برنامج الشرق الأوسط في مجال العلاقات الخارجية «يوري سادوت» بعنوان «قنبلة "إسرائيل" الديموغرافية الموقوتة ليس لها فتيل»، كتب يقول: «إذا استمعت إلى بعض كبار المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين، فستتشكل لديك القناعة بأن «قنبلة "إسرائيل" الديموغرافية الموقوتة تدق، وأنها مهيأة للانفجار في أي يوم الآن».
بل وفقا لصحيفة معاريف العبرية، فإن حكومة الاحتلال قد قدمت إلى الولايات المتحدة الأمريكية اقتراحاً يقضي بتسليم السلطة الفلسطينية جزءاً من منطقة المثلث التي يسكن فيها ما يقارب 300 ألف عربي، مقابل ضم الكتل الاستيطانية إلى دولة الاحتلال. ونقلت الصحيفة عن مصدر سياسي صهيوني رفيع، ضالع في الاتصالات بين دولة الاحتلال والولايات المتحدة، أن «اقتراحاً كهذا من شأنه أن يحلّ قضية تبادل الأراضي، وفي الوقت عينه أن يساهم في الحفاظ على التجانس الإثني لإسرائيل، أي الحفاظ على طابعها اليهودي عبر التخلص من مئات الآلاف من العرب.
الاعتراف بيهودية الدولة يعني ضياع دماء عشرات الآلاف من الفلسطينيين هدراً، ويبرر للاحتلال الصهيوني أيضا ارتكابه للعديد من المجازر التي نفذها وما زال ينفذها بحق الفلسطينيين العزل
ما مخاطر الاعتراف بيهودية الدولة..
1- يهودية الدولة مسمى يلغي الطرف الآخر، ويوجد رواية تنفي الوجود الفلسطيني والحق الفلسطيني والاستمرارية على أرض فلسطين التاريخية، فهو يلغي الرواية الفلسطينية حول النكبة وبذلك لم يكن هناك نكبة فلسطينية وأن اليهود ترجموا حقهم بالعودة الى وطنهم. مما يعني أيضا، ضياع دماء عشرات الآلاف من الفلسطينيين هدراً، ويبرر للاحتلال الصهيوني أيضا ارتكابه للعديد من المجازر التي نفذها وما زال ينفذها بحق الفلسطينيين العزل.
2- يمثل تشريعاً للعنصرية، حيث من حق أي يهودي في العالم أن يعود إلى فلسطين ولا يحق لأحد غيرهم بالسكن فيها، الأمر الذي يعني استمرار النكبة الفلسطينية، عبر إحلال المزيد من الغزاة على الأرض الفلسطينية بعد طرد سكانها منها.
3- هذا الاعتراف يشرع قضية تبادل السكان لفلسطينيي الداخل، وبذلك يشرع ترحيلهم باعتبار أن دولة اليهود فقط لليهود، في حين أن الفلسطينيين فيها هم رعايا وعليهم مغادرتها.
ولهذا فإن الاعتراف بيهودية الدولة يشرع تبادل السكان للتخلص من الخطر الديمغرافي الفلسطيني، وهو ما يعني تصحيح الكيان الصهيوني لأكبر خطأ ارتكبه في التاريخ - على حد تعبير ساسته- والمتمثل بإبقاء نحو 150 الف فلسطيني داخل فلسطين التاريخية. حيث سيصبح هؤلاء أكثر من 1.5 مليون فلسطيني يعيشون في داخل دولة الاحتلال مجرد أقلية لا تتمتع بأبسط حقوق المواطنة، مما يعني أنه يمكن لدولة الاحتلال أن تفرض على فلسطيني الداخل والقدس واقعًا جديدًا بذريعة يهودية الدولة على أساس أنها دولة يهودية، وبالتالي فإن سكانها يجب أن يكونوا من اليهود أو يعتنقوا الديانة اليهودية مما يعني أن الفلسطينيين المقيمين داخلها أصبحوا بين ليلة وضحاها غُرباء لا يتمتعون بحقوق المواطن. وهذا يدفعهم للاختيار بين أمرين أحلاهُما مُرَ:
الأول: أن يقبلوا العيش داخل دولة الاحتلال كأقليةٍ ليس لها حقوق، الأمر الذي سيقودهم في النهاية إلى الهِجرة الطَوعية نتيجة فقدانهم لأبسط حُقوقهم. فيصبحوا مجرد مقيمين يعانون من التمييزِ والتَهميش كما هو الحال اليوم مع مواطِني القُدس الشرقية الفلسطينيين، حيث تقوم سلطات الاحتلال بالتضييق عليهم ومنعهم من التوسع والبناء ناهيك عن تهديد إقامتهم بالقدس بقوانين غير شرعية كقانون مركز الحياة الذي تسبب بطرد عشرات الآلاف من المقدسيين من المدينة المحتلة بذريعة عدم قدرتهم على إثبات بأن القدس مركز حياتهم .
أما الخيار الثاني: فهو اعتناق اليهودية وتخليهم عن ديانتهم لأجل العيش في دولة تدَعي الديمقراطية الأمر الذي يعتبر مستحيلاً.
الاعتراف بيهودية دولة الاحتلال يلغي حق عودة اللاجئين إلى ديارهم، ويجعل ملايين اللاجئين عبارة عن رقم كتب في التاريخ
4- مثل هذا الاعتراف يلغي قضية اللاجئين بالعودة إلى ديارهم، مما يعني إسقاط حق العودة للاجئين الفلسطينيين الذين هجَرتهم آلةُ الحربِ الاسرائيلية قسرًا عن أراضيهم ما بين الأعوام 1948 و 1967، حيث سيصبح ما يزيد عن 5 ملايين لاجئ فلسطيني أمضوا أكثر من 60 عاما في الشَتات والمنفى الإجبارى مُجرد رقم في كُتب التاريخ، وسيتم إنهاء أي أساس قانوني وتاريخي للقرار 194 الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة في الحادي عشر من كانون الأول (ديسمبر) عام 1948م، والذي ينص على حق الفلسطينيين الذين هجرتهم دولة الاحتلال خلال حرب عام 1948 بالعودة إلى بيوتهم وأراضيهم التي هُجِروا منها قسرًا.