كان لافتاً أنه في الوقت الذي كان الأجهزة الأمنية التابعة لسلطة رام الله تنتظر عدداً من نشطاء حركة حماس الذين أفرجت عن سلطات الاحتلال لإلقاء القبض عليهم عند مشارف مدينة الخليل، كان نفتالي بنات نائب رئيس الحكومة الصهيونية يقوم بتدشين مشروع استيطاني جديد في قلب المدينة.
لم يكتف بنات بذلك، بل إنه تعهد أمام قادة الجيب الاستيطاني في المدينة بأن الاستيطان اليهودي في المدينة، كما هو في جميع أرجاء الضفة الغربية والقدس سيتواصل وأن "اليهود باقون في الضفة إلى أبد الآبدين"، على حد تعبيره.
إن هذه الحادثة تكشف في الواقع توظيف إسرائيل لسلوك السلطة في حسم مصير الضفة الغربية. لكن ما هو خطير جداً هو أن الاحتلال يوظف المفاوضات في توفير بيئة تسمح ليس فقط بتهويد مدينة القدس، بل إن الكيان الصهيوني ينتقل حالياً نحو "أسرلة المدينة". وتتمثل "أسرلة" القدس عبر تدشين مشاريع تسهم في تعميم الانطباع بأن المدينة تمثل "عاصمة" لهذا الكيان.
هذا في الوقت الذي لا تحرك فيه قيادة السلطة الفلسطينية عملياً أي ساكن لمواجهة هذا العدوان، بل على العكس، فإن هذه القيادة تخرج عن طورها في طمأنة الكيان والإيحاء بأن ما يقوم به ضد القدس ومختلف الأراضي الفلسطينية المحتلة لا يستدعي الرد بشكل جاد، وهذا ما يعكسه تعاظم التعاون الأمني بين الجانبين. ليس هذا فحسب، بل إن قيادة هذه السلطة تمنح عمليات التهويد والأسرلة مظلة دولية، من خلال موافقتها على مواصلة التفاوض مع الكيان الصهيوني؛ فمواصلة السلطة التفاوض رغم تواصل مخططات التهويد يقلص أية فرصة لاعتراض العالم على ما تقوم به "إسرائيل"، حيث إن العالم ليس بوسعه أن يكون ملكاً أكثر من الملك. وعلى الرغم من الحديث عن المقاطعة الأوروبية لإسرائيل، إلا أن هناك إدراك عام في إسرائيل بأنه لولا استمرار المفاوضات مع السلطة لكانت أوروبا قد ذهبت بعيداً في مقطاعتها لإسرائيل.
قوانين "الأسرلة والتهويد"
إن أحد مواطن الخلل والخطل في سلوك السلطة الفلسطينية تجاه القدس يتمثل في تجاهلها لدلالات القوانين التي تسنها إسرائيل التي تكرس تهويد القدس وأسرلتها. أن الأحزاب الصهيونية المشاركة في الائتلاف الحاكم أصبحت في سباق مع الزمن لتوظيف ثقلها السياسي من أجل تمرير المزيد من القوانين التي تسدل الستار على أية تسوية سياسية للصراع. فقد بادرت أحزاب الائتلاف الحاكم إلى سن قانون ينص على أن أية تسوية بشأن القدس يجب أن تحظى بدعم ثلثي أعضاء البرلمان "الكنيست". ولما كان اليمين يسيطر على أكثر من 75% من المقاعد، فأن هذا يعني أن أية تسوية سياسية للصراع لن يكتب لها النجاح، لأنها ستسقط في اختبار التصويت في البرلمان.
وفي ذات السياق، سن الكنيست عدة قوانين لتشجيع اليهود على القدوم للإقامة في المدينة. ومن نافلة القول أن جميع الأحزاب التي تشارك في الحكومة الإسرائيلية الحالية ترفض إبداء أية مرونة تجاه مستقبل القدس، وضمن هذه الأحزاب حزب "ييش عتيد"، الذي يعتبر المدافع عن العلمانية في "إسرائيل". بل أن زعيم حزب "ييش عتيد" ووزير المالية الصهيوني يئير لبيد يزاود على الأحزاب الدينية في كل ما يتعلق بالقدس ويعتبر أن الاحتفاظ بالمدينة تحت الحكم الصهيوني هو من متطلبات احترام تراث "أنبياء وملوك إسرائيل"، كما يزعم. "الدولة" التي يبشر بها عباس!!
إن أخطر مشاريع التهويد التي تعكف عليها الحكومة الصهيونية للقدس على الإطلاق هو مشروع "E1"، وهو مشروع كبير ومتعدد الأهداف، وذا طابع إستراتيجي. فهذا المشروع يهدف إلى ربط مستوطنة "معاليه أدوميم"، التي تقع في شمال شرق المدينة بالقدس، حيث يهدف المخطط إلى إغلاق الفضاء الذي يفصل القدس عن المستوطنة.
إن خطورة هذا المشروع لا تكمن فقط في أنه معد لاستيعاب عشرات الآلاف من الصهاينة الجدد، بل لأن انجازه يعني إسدال الستار على أية فرصة لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية في المسقتبل. لماذا؟، لأن الشارع الذي يربط حالياً بين شمال الضفة الغربية بجنوبها يمر في الفضاء الذي يفصل القدس عن "معاليه أدوميم"، وفي حال انجز هذا المشروع، فإنه سيتم إغلاق الشارع، مما يعني عملياً فصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها، مما يعني أن أية دولة فلسطينية ستقام في المستقبل لن تكون ذات وحدة جغرافية متصلة، أي أن "إسرائيل" ستفصل بين أجزاء هذه الدولة. وقد تم تصميم هذا المشروع تحديداً لتحقيق هذا الهدف.
قصارى القول انقاذ القدس هو أمر الساعة، فترك إسرائيل فعل ما يحلو لها في المدينة أمر بالغ الخطورة ويسهم فقط في فتح شهية الصهاينة لتنفيذ المزيد من الخطوات الهادفة لتكريس الأمر الواقع في المدينة، وهذا ما يتوجب التصدي له وإحباطه عبر إشعار صناع القرار في تل أبيب أن ثمناً يجب أن يدفع، وإلا فإن "بنات" سيصدق نفسه عندما يقول إن الصهاينة "سيبقون هنا إلى أبد الآبدين".