ربما لم يشهد العصر الحديث حزباً أو جماعة تحوي تنوعاً فكرياً وثقافياً واجتهادياً أو حتى عرقياً كما شهدته جماعة الإخوان المسلمين بكافة فروعها، حيث يرفد الجماعة بالكثير من الأفكار والرؤى والبرامج والتي ترتقي بدورها ومستوى خطابها، ناهيك عن وجود رقابة حقيقية على تصرفات القيادة والمسؤولين فيها.
لكن بلا شك أن تعدد الرؤى والاجتهادات وتنوعها يمثل سلاحاً خطيراً قد يدمر الصف الداخلي للدعوة إذا لم يحسن التعامل معها بما يتوافق وفق مصالح الدعوة وفلسفتها.
ومما يبدو ظاهراً لكل متابع، أن الجماعة تتعرض حالياً لحرب شعواء، تمس وجودها وتأثيرها في الشعوب، لكن في نفس الوقت، تستهدف هذه الحرب جوهر فكرتها، وتفريق أبنائها وتشتيت جهودهم.
ولا أريد أن أتطرق إلى مقدار الخطاب التحريضي الذي يستهدف الجماعة كإسم ويشوه صورتها من قبل "مشايخ التدخل السريع"، "ودعاة الأمن والأمان"، و"علماء السلطان ومفتيه"، بل أريد أن أسلط الضوء إلى دورنا في المساهمة في تحقيق مبتغى هؤلاء ومن يحركهم ويقف وراءهم.
الاختلاف..طبيعة بشرية
لم يخلق الله البشر على نمط واحد، وفكر محدد، ورؤية لا تقبل التعدد، بل جعل فيهم التنوع والذي يرتقي بالمجتمع البشري، ويساهم في تحقيق وظيفة الاستخلاف على الأرض. وفي الوقت ذاته، فإن الاختلاف هو الذي يميز بين الناس، إذ لولا ذلك، لما كان بإمكاننا أن نتعرف على الصحيح والخطأ، وعلى الصواب والأصوب. قال الله تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين} [هود:18]. وقال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم :22].
"الاختلاف هو الذي يميز بين الناس، إذ لولا ذاك، لما كان بإمكاننا أن نتعرف على الصحيح والخطأ، وعلى الصواب والأصوب"
والاختلاف ليس وليدة عصرنا، بل هو قديم قدم البشرية، وهو مستمر طالما أن البشرية مستمرة، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وليس عيباً أن تتعدد الاجتهادات داخل المؤسسة أو الحزب الواحد، فالطبيعة البشرية تقضي بتحقق ذلك، وهذا ما نشاهده جليا في تاريخنا الإسلامي. ففي السيرة النبوية نجد الكثير من تعدد الاجتهادات وتنوع الآراء من قبل الصحابة رضي الله عنهم، ولو استحضرنا الشواهد لوجدناها كثيرة جدا، ويكفينا أن نذكر مسألة أسرى بدر، حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما عن رأيهما فيما يفعله فيهم، فقال أبو بكر: (.. يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ترى يا ابن الخطاب؟» فقال عمر: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم...) (صحيح مسلم).
ورغم تنوع الاجتهادات بين الصحابة رضي الله عنهم، إلا أنهم لم يؤثر عنهم أنهم اتهموا بعضهم بالجبن أو عدم الفهم، ولم يكن لهذا الاختلاف في الاجتهاد أي دور يذكر في إضعاف الجبهة الداخلية أو التأثير على قوتها وحصانتها، بل كانوا دائماً ما يذكرون بعضهم بضرورة الالتزام بالمنهج حتى لو كان لديهم تحفظات أو تساؤلات على بعض التصرفات، تماماً كما حصل مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلح الحديبية، وتذكير أبي بكر رضي الله عنه له بالتزام غرز الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهجه، وبأن الله لن يضيعه.
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوقف التنوع في الرأي وتعدد الاجتهادات في العصر الراشدي، بل تميز ذاك العصر تميزاً باهراً في الإدارة والتعامل مع المعضلات المختلفة، نظراً لتنوع مصادر الرأي والاجتهاد، والذي كانت رافداً ثرياً للخلفاء في حسن الإدارة وسياسة الأمة.
إلا أنه لما حاول بعض الحكام بعد انتهاء العصر الراشدي من القضاء على سنة التنوع والاختلاف وتعدد الاجتهادات والرؤى، ظهرت القلاقل والفتن، وانتشرت الجيوب والتنظيمات السرية، بل وأثرت على الوضع الداخلي للدولة، إذ كان ذلك سبباً لتلقي الأمة لضربات موجعة على الرغم من قوتها واتساعها.
"الاختلاف في المجتمعات طبيعة بشرية، ولا يوجد ما هو مستثنى من ذلك، إلا أن تُحكم هذه المجتمعات بالقهر والغلبة، وقوة الرأي الواحد مما يترك عليها آثاراً وخيمة في المستقبل، بل ويقتل الدافعية على التطور لدى الأفراد"وهذا الأمر كان دافعاً لبعض حكام الأمة لتسيير الأمة على فطرتها وحقيقتها، ويظهر جلياً في تصرف عمر بن عبد العزيز رحمه الله، حيث أرجع للأمة مبدأ الشورى، وناظر مخالفيه في الرأي، يسمع حججهم، ويناقشهم، حتى أثر ذلك على الوضع الداخلي، رغم قصر فترة حكمه رحمه الله.
والمغزى من هذا السرد التاريخي، أن الاختلاف في المجتمعات طبيعة بشرية، ولا يوجد ما هو مستثنى من ذلك، إلا أن تُحكم هذه المجتمعات بالقهر والغلبة، وقوة الرأي الواحد مما يترك عليها آثاراً وخيمة في المستقبل، بل ويقتل الدافعية على التطور لدى الأفراد، مما يحقق جيشاً من العاطلين الذين لا يقومون إلا بما تأمرهم به القيادة وكل ذلك على مضض ودون حرقة.