لقد تابعنا كما تابع العالم كله سير عملية الانتخابات المحلية في تركيا، ولاحظنا الاهتمام الكبير من الشعوب العربية بهذه الانتخابات ومتابعتها للشأن التركي بشكل عام.
ينزل الناس إلى الشوارع بنسبة قاربت التسعين بالمئة، ويختارون من يمثلهم بكل حرية، يختارون الاستقرار والتقدم الاقتصادي الذي تتمتع به بلادهم منذ بداية القرن الجديد.
وبغض النظر عن نتيجة هذه الانتخابات، وعن الآراء المختلفة حول البِنية الفكرية والتوجهات السياسية للأحزاب المتنافسة في تركيا، فإنه لا أحد ينكر عظمة الحدث وحجم الانشداد الهائل من المسلمين نحو تركيا، ويظهر هذا واضحاً في خطاب رئيس الحكومة التركية بعد ظهور نتائج الانتخابات، حيث شكر المسلمين ونسَب الفضل لدعائهم.
ـوكلنا يعلم كيف تحولت تركيا في القرن الماضي من مركز خلافة المسلمين إلى قلعة عنيدة حاربت الإسلام كمشروع حضاري واللغة العربية كهوية ثقافية، وكلنا يرى الآن كيف حولت تركيا بُوصلتها مرة أخرى نحو المشروع الحضاري والهوية الثقافية، حريةً وعدالة وكرامة وتنمية.
ونحن هنا لسنا بصدد تحليل النتائج أو تفضيل حزب على حساب آخر، لكننا سنلفت الانتباه إلى جملة من الأمور لتحليل الموقف:
"إن الزعامة الحقيقة واستحقاق قيادة الناس ليس لها طريق إلا رضا الناس، وهذا بالتحديد ما فهمه الصحابة الكرام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم"
أولاً: إن الزعامة الحقيقة واستحقاق قيادة الناس ليس لها طريق إلا رضا الناس، وهذا بالتحديد ما فهمه الصحابة الكرام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة ذلك قول أبي بكر الصديق: (إني قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني..)، وكان عمر بن الخطاب يقول: (ما أنا إلا رجل منكم) وكان يقول أيضاً: (المال مال الله، والبلاد بلاد الله)، أما علي بن أبي طالب فقد ذهب في الوضوح كل مذهب في رده على عمه العباس عندما طلب منه أن يسأل رسول الله عن الخلافة من بعده، فقَالَ عَلِيٌّ: (وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَمْنَعُنَا، لاَ يُعْطِينَاهَا النَّاسُ أَبَدًا، وَإِنِّي لاَ أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَدًا).
إذن فقد كانوا يدركون تماماً: أن رضا الأمة واختيارَها هو الطريق الوحيد للزعامة، وأن سلطان الأمة فوق سلطان حكامها.
ثانياً: يتشدق أنصار الاستبداد في بلادنا العربية بالقول: إن الشعوب العربية ليست مستعدة للديمقراطية، وما زالت بحاجة إلى سنوات طويلة وبرامج مستمرة لتأهيلها لحرية الاختيار.
ولو صدقوا لقالوا: إن فتح المجال أمام الشعوب لحرية الاختيار يعني نهاية الاستبداد، ونهاية أهل المصالح المرتبطة بمؤسساته.
بل إنهم سيلجأون إلى كل وسيلة ممكنة للانقضاض على أية تجربة حضارية تؤذن بنهاية عهد الاستبداد، أو تشكل خطراً محتملاً على كيان العدو الصهيوني، وليس أدلَّ على ذلك من الانقلاب الدموي الأسود على خيار الشعب المصري، والذي استخدم كل الوسائل الشريرة لتحطيم إرادة الشعب، وصناعة رموز كرتونية بائسة توهم البسطاء بالمستقبل الزاهر.
"عدم أهلية الشعوب العربية لحرية الاختيار هي كذبة محلية مصنعة في مطبخ الاستبداد، ليست مستوردة من الخارج، ونحن نرى بأعيننا أمماً أكثر تأخراً حضارياً من الأمة العربية تمارس حقها في الاختيار"
فعدم أهلية الشعوب العربية لحرية الاختيار هي كذبة محلية مصنعة في مطبخ الاستبداد، ليست مستوردة من الخارج، ونحن نرى بأعيننا أمماً أكثر تأخراً حضارياً من الأمة العربية تمارس حقها في الاختيار، وأكبر مثال على ذلك هو اختيار الشعب الهندي لقيادته على اختلاف أعراقه وعقائده. بل إن هناك دولاً في أفريقيا وأمريكا الجنوبية أكثر تقدماً في التجربة السياسية من البلاد العربية.
ثالثاً: تشكل التجربة التركية الحديثة نموذجاً متقدماً للأحزاب والجماعات في البلاد العربية، فعلى قادة هذه الأحزاب والجماعات على مختلف البِنى الفكرية والتوجهات السياسية أن يدرسوا هذه التجربة، ويستفيدوا من أبعاد الخدمة المدنية في رسم مستقبل أي وطن يريد الوصول إلى القوة الاقتصادية المتقدمة والمكانة السياسية المؤثرة، فما لم تنزل رموز هذه الأحزاب والجماعات من أبراجها العاجية إلى الشوارع لتلتمس حاجات الناس الذين وكلوهم للتكلم باسمهم، فلن تكون هناك نهضة ولا تقدم.
رابعاً: يجب على الأنظمة والحكومات العربية أن تلتقط الرسالة، وتعمل بجد للالتحام مع شعوبها، وأن تستفيد من الجارة الكبيرة والأم القديمة، فالتاريخ لا يرحم أحداً، ودوام الحال من المحال.
ولا داعي لتشدق البعض بهيمنة الدول الكبرى على مراكز القرار في العالم العربي، فهذه الهيمنة وإن كانت صحيحة بنسبة معينة، فإنها لا تعفي أصحاب القرار من مسؤولياتهم إذا أرادوا، بل إن التشدق بهذه الهيمنة يشكل شماعة يعلق عليها المستبدون بؤسهم وتخلفهم، فتبدأ الأسطوانة القديمة بالدوران مرة أخرى تحت عنوان: ليس بالإمكان أبدع مما كان، ونحن أفضل من غيرنا، والإمكانات محدودة والموارد معدودة، إلى صف طويل لا ينتهي من هذا الكلام القديم البالي.
إن الشعوب في هذا الزمان أكثر وعياً منها في الزمان الماضي، وإن الأجيال القادمة تحتاج إلى أكثر بكثير من الوعود الفارغة، وما لم تدرك الزعامات العربية الرسمية هذا الواقع، فإن سنة الله ماضية في الاستبدال.
قال الله تعالى: ((... وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ))، (سورة محمد: 38).