التوكُّل والعناية الإلهية وحال دُعاة اليوم! (2-2)

الرئيسية » بصائر تربوية » التوكُّل والعناية الإلهية وحال دُعاة اليوم! (2-2)
التوكل على الله

وبعد الامتحانات الكبرى التي اختبر بها الله عز وجل أم موسى؛ امتحان إلقاء الوليد إلى النهر، ثم امتحان وقوعه في يد الأعداء، ثم امتحان إشرافه على الهلاك من الجوع، والذي كان لحكمةٍ من الله عز وجل لكي يعود الوليد إلى أمه.. هنا يأتي الفرج الإلهي والنعمة الربانية الكبرى، وفرحة الأم وسعادتها العظمى، بعد هذا الفَرَج الإلهي.. {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ (13)}..

ولكن الآيات لا تركن لهذه الصورة الرائعة فحسب، فكما هو دائمًا في القرآن الكريم، درس من الله تعالى له وللعالمين في قرآن خالد أبد الدهر، وهو {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}، وهو أيضًا على وجه التخصيص فيما يخص هذه الآية؛ أيضًا عتاب إلى أم موسى؛ التي غلب قلب الأم فيها إيمانها قبلاً؛ لولا رباط الله تعالى على قلبها.. وبالرغم من ذلك فإن البشر {أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}..!

وهو موقف تكرر قبلاً في قصة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، مع زوجه هاجر وولده إسماعيل عندما تركهما في وادٍ غير ذي زرعٍ. هنا سألته زوجته قائلةً: أأمرك الله بذلك؟! وعندما قال لها نعم؛ قالت فورًا، ومن دون أي ذرة شكٍّ، وبطمأنينة نابعة من إيمان عميق بجوار الله تعالى لهما ولوليدها: "إذن لن يضيعنا"..!

"اليقين يأتي من الإيمان، والذي هو بدوره أحد عطايا الرحمن لعباده، وهو - أي الإيمان- الذي يمنح الإنسان ثقةً في الله عز وجل"

هذا اليقين أتى من الإيمان، والذي هو بدوره أحد عطايا الرحمن لعباده، وهو - أي الإيمان- الذي يمنح الإنسان ثقةً في الله عز وجل، باعتباره الخالق، وهو قيوم السماوات والأرض، والذي لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم.

إسقاطًا على واقع المسلمين والدعاة الراهن

بلا شكٍّ، فإن المشروع الإسلامي الحضاري، والحركات التي تتصدى لاستحقاقاته في وقتنا الراهن، يمران بمحطة هي ربما الأصعب عبر تاريخ المشروع الإسلامي في العصر الحديث؛ حيث الملاحقة والتدافع الآن من أعداء المشروع، تجاوز فكرة مطاردة الجوانب الحركية إلى مطاردة الفكرة وتعقبها.

ومن ثَمَّ؛ فإن الكثيرين بين ظهرانيي هذه الدعوة في الوقت الراهن، مع تكالب أعداء الأمة، وأعداء المشروع، عليهما، قد وصلوا إلى نفس المرحلة التي وصل إليها صحابة رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، رضوان الله تعالى عليهم، في فترة ابتلاء واختبار ربما كانت الأصعب في تاريخ دولة الإسلام الوليدة، وهي فترة غزوة "الأحزاب"، والتي ربما أراد الله تعالى منها فوائد عظيمة، مثل تمحيص صدور المؤمنين، وكشف المنافقين، ووضع أسس التعامل مع الواقع السياسي والاجتماعي القائم في المدينة المنورة وشبه جزيرة العرب.

ويصف القرآن الكريم هذه الحالة، بقوله تعالى في سورة "الأحزاب": {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا (11)}.

وبما أن الأحزاب لم يذهبوا، وقد قال القرآن الكريم عنهم أنهم سوف يأتون، {وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلا (20)}؛ فإنه من الأهمية بمكان على العاملين في الحقل الدعوي، والقائمين على المشروع الإسلامي، أن يكونوا أول الملتزمين بهذه السُّنن، والاطمئنان إلى وعد الله تعالى بالنصر.

"إن اليقين الإيماني بأن النصر هو من عند الله، والتوكل عليه عز وجل، هو أحد أهم وسائل النصر ذاته، وهو ما يجب على كل داعية، وكل من تصدى للعمل الإسلامي العام أن يدركه."

إن اليقين الإيماني بأن النصر هو من عند الله، والتوكل عليه عز وجل، هو أحد أهم وسائل النصر ذاته، وهو ما يجب على كل داعية، وكل من تصدى للعمل الإسلامي العام أن يدركه.

ولكن ثَمَّة قضية كبرى يجب التركيز عليها في هذا السياق، وهي قضية الأسباب، وكيفية الحصول على الوعد الإلهي بالنصر.

من بين أهم سنن العمران البشري التي وضعها الله تعالى في خلقه، قضية الأخذ بالأسباب، وإعداد العُدَّة، ولا فرق في ذلك بين مؤمن وكافر، فمتى تم الالتزام بأسباب الخلق الإلهي؛ فإن مسعى الإنسان والجماعات يتحقق.

الفارق بين بين الجماعة المسلمة والجماعة غير المسلمة، في لحظات التصادم الحضاري الكبرى، ومن أجل الحصول على الدعم الإلهي والتمكين بالنصر؛ يكمن الالتزام بالمنهج الأخلاقي والقيمي الذي خرج المسلمون لكي يحملوا نوره إلى العالم كله، ويدافعون عنه.

هنا تتدخل قضايا أخرى، مثل النية؛ نية المسلم فيما يفعل، وهدفه منه، وكذلك الاستطاعة؛ فلو علم الله تعالى أن استطاعة الجماعة المسلمة توفير جندي واحد فقط، وأنها أخذت بكل الأسباب، ولم تقدر سوى على ذلك؛ أنزل الله عز وجل عليها يقين النصر، وأيدها به من عنده.

ومن ثَمَّ؛ فإنه من الأهمية الالتزام بالمنهج الأخلاقي، والنية الصحيحة؛ لأنما الأعمال بالنيات كما قال الصادق المصدوق "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وإعداد العدة قدر الاستطاعة؛ يأتي اليقين والإيمان، ويكون التوكل الصحيح على الله عز وجل.

معلومات الموضوع

الوسوم

  • التوكل
  • اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
    "باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

    شاهد أيضاً

    “بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

    كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …