يعتبر القصص القرآني من أهم الأمور التي ركز عليها صاحب الكتاب تبارك وتعالى، وهو ينزله على صدر المصطفى "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"؛ ليكون للعالمين حتى تشاء إرادة الله عز وجل، ويرفعه من صدور الناس.
وعندما يضرب الله تعالى الأمثال؛ فإنه ما على البشر سوى الاستماع والامتثال.. يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ" [سُورة "الحَج"- من الآية 73].. وهنا أكثر من لفتة في الآية الكريمة، الأولى هي أن الخطاب موجَّه للناس كافة.. "يَا أَيُّهَا النَّاسُ"..
أما اللفتة الثانية فهي مباشَرة الأمر الإلهي بما لا لبس فيه؛ حيث "الفاء" في عبارة "فَاسْتَمِعُوا لَهُ"، هي "الفاء" الرابطة لجواب الشرط، ودخلت على جملة فعلية فعلها طلبي، فتفيد هنا بضرورة سرعة الامتثال، وأنه أمر إلهي واجب النفاذ.
ومن بين أهم الأمور التي أرادها الله تعالى من وراء القصص القرآني، بجانب تسلية النبي "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وتهوين مصاعب الدعوة عليه، من خلال إطلاعه على ما وقع في حق من سبقوه من الأنبياء والمرسلين صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين؛ هو التربية الإيمانية للنفس الإنسانية.
ومن بين أهم وسائل التربية، التي عرفها العلم الحديث، وأتى بها القرآن الكريم من قبل أربعة عشر قرنًا ونيِّف من الزمان، هي التربية من خلال طرح مواقف على طالبي العلم، وتعريفهم بما فيها من عِبَرٍ وحِكَمٍ وتعاليم.
ومن بين أهم القصص القرآنية التي تحمل في طياتها الكثير من الإيماءات والإشارات التربوية والإيمانية؛ هي قصة أم موسى "عليه السَّلامُ"، تلك السيدة الفاضلة التي تصدت لموقف يصعب على أقدر الرجال التصدي له، ولم تتصدى له إلا بعد أن نالت الطمأنة الإلهية، وتربية رب العزة سبحانه وتعالى، لنفسها التربية الإيمانية السليمة.
رويت قصة نبي الله تعالى موسى "عليه السَّلامُ"، نيفاً وعشرين مرة في القرآن الكريم، من بينها موضعان ذُكِرَت فيها أمه، وموقفها الصعب ما بين أوامر الإله التي لا تُردُّ وبين عاطفة الأمومة التي أثبت العلم الحديث أنها أقوى المشاعر الإنسانية، وهو ما لعله كان موطن الاختبار الإلهي لأم موسى، في سورتَيْ "القصص" و"طه".
وما يهمنا في هذا الإطار، القيم المهمة التي حفلت بها هذه القصة فيما يتعلق بتربية رب العزة تبارك وتعالى، للإنسان المؤمن، وكيف يطمئنه ويؤمنه، وكيف تَقَرُّ نفس الإنسان بطمأنة الإله الواحد الأحد؛ المتصرف في كل الأمور، وأن يكون متعلقًا بالتوكل والعناية الإلهية، وكانت آيات "القصص" الأكثر تفصيلاً في هذا الأمر.
"الإيمان هنا هو صنو الطمأنينة وهو منحة الله الكبرى لعباده"
الآيات من الآية السابعة وحتى الثالثة عشرة من سورة القصص، تصف أجمل صورة إنسانية يمكن أن يراها ويسمعها بشر، قصة أم مكلومة ملهوفة على ابنها، يكلمها الله تعالى وحيًا من فوق سبع سماوات؛ لكي يطمئنها.
الآيات تبدأ بأمر إلهي لا جدال فيه.. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ}.. وعلى علم الله تعالى بخلقه؛ فإنه عز وجل طمأنها وأدخل في روعها الأمان على رضيعها الصغير الذي كانت تبحث عنه كل قوى الشر في عصره؛ فرعون وهامان وجنودهما.. {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}.. عطايا إلهية بجانب الطمأنة؛ إلا أن كل ذلك لم يجعل أم موسى تهدأ بالاً..
ففي الآية العاشرة، يقول الله عز وجل في وصف حالها الحزين: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا}.. أصبح قلبها خائفًا على وليدها، بعد أن وقع في أيدي أعدائه وأمر فرعون جنوده بقتله، فقد كانوا يقتلون الوليد الأول لبني إسرائيل بعد نبوءة أو رؤية ذكرت أن مُلك فرعون سيزول على أيدي نبيٍّ منهم سيكون هو الولد الأول لأهله..
وبرغم الطمأنة الإلهية؛ إلا أن أم موسى {كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ}.. وهنا تدخل الله تعالى بسكينته عليها {لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.. فالإيمان هنا هو صنو الطمأنينة.. بل الإيمان هو منحة الله الكبرى لعباده..!