الدولة القومية.. ما بين الإسقاط والإصلاح ضمن استحقاقات الربيع العربي

الرئيسية » بصائر الفكر » الدولة القومية.. ما بين الإسقاط والإصلاح ضمن استحقاقات الربيع العربي
images

تعتبر قضية تمكين المشروع الحضاري الإسلامي، في ظل الصعود الكبير الذي حققه الإسلاميون، على اختلاف ألوان طيفهم السياسي والفكري من أهم الاستحقاقات التي نشأت مع الربيع العربي، عندما ثارت الشعوب ضد حكامها المستبدين، والذين كانوا يمارسون مختلف أشكال الفساد والاستبداد، ويشكلون رأس حربةٍ لصالح الاستعمار وقوى الاستكبار العالمي.

قاد الإسلاميون، وعلى رأسهم التيارات الصحوية، مثل الإخوان المسلمين، الربيع العربي، وبدؤوا في توجيه سياسات دولهم نحو تمكين المشروع الإسلامي، ومحاولة استعادة خيرية الأمة التي فقدتها في ظل حكم الفساد والاستبداد، وسيطرة قوى الاستعمار الداخلي والخارجي على مقدرات الأمة وتوجيهها بما لا يخدم مصالح الأمة.

وبطبيعة الحال؛ كان الشغل الشاغل للأحزاب والحركات الإسلامية، هو الحديث عن مسألة استعادة الخلافة؛ ذلك الإطار السياسي الجامع الذي كان يضم الأمة، وكان سقوطه أحد أهم أسباب التراجع الحضاري للأمة العربية والإسلامية، وتمكين المشروع الاستعماري بين ظهرانيها، من خلال أدوات مثل المشروع الصهيوني، وأنظمة الفساد والاستبداد.

ولكن وقعت بعض الاختلالات في السعي والتطبيق من جانب بعض هذه التيارات، وبالذات المجموعات الجهادية المسلحة، التي تنتمي إلى مدرسة الثورة المسلحة والتغيير الراديكالي، وليس إلى مدرسة التغيير السلمي التدريجي القائمة على أساس فكرة الإصلاح السياسي والمجتمعي، نتيجة أخطاء مفاهيمية أصيلة.

ولقد قادت هذه الاختلالات المفاهيمية والعملية، إلى الحديث عن إسقاط الدولة القومية الحديثة، نتيجة لتنظيرات بعض أصحاب الرؤى غير العلمية أو غير المبنية على معرفة سليمة.

وهذا أمر شديد الخطورة، ويُنتسب بصورة خاطئة إلى المشروع الصحوي الوسطي الذي يمثله الإخوان المسلمون، ويخالف المراحل التي وضعها الإمام الشهيد المؤسس حسن البنا، للمشروع الإسلامي، والتي تنطلق من صحيح نظرة الإسلام للعمران البشري وقوانينه، ومن ثَمَّ؛ فإنه يجب توضيح رؤية المشروع السياسي الإسلامي الصحوي حول الدولة وأهميتها، وكيفية التعامل معها.

ما بين الإصلاح والإسقاط:

بدايةً، فإنه في إطار الصراع مع الأنظمة الفاسدة والمستبدة، وتحت وطأة توحش هذه الأنظمة، وعودتها بالممارسة السياسية إلى حالة البداوة الوحشية الأولى،؛ خلط البعض بين متطلبات إصلاح الدولة وإزالة الأنظمة الفاسدة، في حالةٍ من الكفران المبين بكل ما يرتبط بهذه الأنظمة.

وبدأت بعض هذه القوى في وضع ذلك في إطار الحديث عن استعادة الخلافة الإسلامية، وهي رؤية خاطئة لأصول وقوانين العمران البشري التي وضعها الله سبحانه وتعالى، في خلقه، وشرحها علماء المسلمون، وعلى رأسهم ابن خلدون وابن أبي الربيع، للعالم كله.

فالبنا طرح مشروع الإخوان المسلمين لتحقيق الخلافة الإسلامية، من خلال المراحل السبعة المعروفة، والتي من بينها تحقيق الحكومة والدولة الإسلاميتَيْن في الأقطار العربية والإسلامية، ثم جمعها جميعًا في إطار دولة واحدة بعد تربية المجتمعات والحكومات على قبول الفكرة الإسلامية والمشروع الإسلامي.

 "الدولة هي إحدى أشكال العمران البشري، والقول بتجاوزها؛ يعني تجاوز القوانين السليمة التي وضعها رب العزة في خلقه، وليس من المخالف لصحيح الدين التعامل مع فكرة الدولة القائمة؛ بل إن ذلك يأتي في إطار الضرورة الشرعية أيضًا"

وتنطلق هذه الرؤية من فهم صحيح للإسلام وتعاليمه، والتي بطبيعة الحال تتسق مع القوانين التي وضعها الله سبحانه وتعالى، للخلق الإنساني وصيروراته في الحياة الدنيا وفي الآخرة، باعتبار واحدية المصدر.

الدولة والعمران البشري:

فعندما وضع رب العزة سبحانه شريعته؛ وضعها وفق القوانين العمرانية التي خلقها، مثل قواعد الاجتماع الإنساني وسُنَن التدافُع، وغيرها من هذه القوانين؛ متسقةً مع طبيعة خلق الإنسان، وبالتالي يسهل عليه السير على هدى شريعة الإسلام، وتحقيق ما خُلق لأجله، في خلافة الله عز وجل في أرضه، وإعمار هذه الأرض، من أجل الغاية العظمى للخلق الإنساني، وهي عبادة الله عز وجل، خالق هذا الكون ومدبِّر أمره والمتصرف فيه.

ولقد اعترفت الشريعة الإسلامية بأشكال الاجتماع البشري المختلفة، ولم تنكره.. "وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا" [سُورة "الحُجُرات"- الآية 13]، فهذا هو قانون العمران البشري الأساسي في الاجتماع الإنساني الذي خلقه الله تعالى فينا كبشر؛ التفرق كشعوب وقبائل، من أجل التعارف، ثم تحقيق التكامل المطلوب؛ لأجل استمرار الحياة، والتي هي المقصد الرئيسي من مقاصد الشريعة الإسلامية.

ومن خلال النظر في الممارسة النبوية في هذا الإطار؛ فإن الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، خلال سنوات البعثة، كانت القبيلة، وهي صورة الاجتماع الإنساني الرئيسية التي كانت موجودة في شبه جزيرة العرب، بيئة الإسلام الأولى، هي أساس تحركه "السياسي" لنشر دعوة الإسلام، والبدء في التأسيس للصورة الأكثر رقيًّا من أشكال الاجتماع الإنساني، وهي الدولة.

وعندما هاجر "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، إلى المدينة المنوَّرة؛ سعى إلى تأسيس "دولة"، قامت على أساس الاعتراف بالقبائل التي كانت قائمة، كما جاء في وثيقة المدينة، أول دستور عصري لدولة في التاريخ.

ومِن ثَمَّ؛ فإن الدولة هي إحدى أشكال العمران البشري، والقول بتجاوزها؛ يعني تجاوز القوانين السليمة التي وضعها رب العزة في خلقه، وليس من المخالف لصحيح الدين- من خلال الممارسة النبوية نفسها- التعامل مع فكرة الدولة القائمة؛ بل إن ذلك يأتي في إطار الضرورة الشرعية أيضًا؛ لأنه يرتبط بمصالح المسلمين المرسلة.

فالدولة القومية، بما في ذلك تلك القائمة في العالم العربي والإسلامي، ليست مجرد حدود سياسية مرسومة على الأرض؛ حتى نقول بهدمها وتوحيد ديار الإسلام مرة أخرى، هذا على اعتبار أن القصة قصة حدود سياسية فحسب؛ ولا تتعلق أيضًا بقوى تدافُع قائمة.

بل الدولة مفهوم وظيفي، يقوم بالأساس على تحقيق احتياجات الإنسان، وعلى رأسها الأمن بمعناه المجتمعي الشامل، من خلال فرض القانون والنظام، وسقوطه معناه سقوط المجتمع في أتون من الفوضى المدمرة، التي تضع ما يجري في خانة المخالفة الشرعية؛ لأنه- أي ما يجري بالصورة المطروحة- يخالف مصالح المسلمين المرسلة، ومقاصد الشريعة، والتي من المتفقين أن على رأسها الحفاظ على النفس.

كما أن هذه الفوضى تعطل أهم ما لدى الإنسان، وهو قدرته على أداء فرائضه وعباداته، لانتفاء الإحساس بالأمن؛ الذي هو على رأس أولويات احتياجات الإنسان التي خلقها الله تعالى فيه كفطرة إنسانية.

كذلك هذه النظرة، تتجاوز أحد أهم القوانين الربانية في خلقه، وهي سُنَن التدافع؛ حيث تتجاوز هذه الرؤية القاصرة قوى التدافع التي نمت وتربَّت على مفاهيم الانتماء الوطني فحسب، والتي سوف تتصدى بكل ما أوتيت من قوة لفكرة إسقاط الدولة بمعناها السياسي والمؤسسي والوظيفي، حتى ولو كان البديل الأممي هو المطروح؛ لأن هذه القوى لا تؤمن بفكرة الوحدة الإسلامية.

فهناك مخاطر فعلية في تفكيك الدولة بمعناها الوظيفي والمؤسسي على المواطن والمجتمع، وعلى المشروع الإسلامي الحركي نفسه الذي يتحرك وفق إطار يعترف بوجود الدولة القومية الحديثة وفق الأمر الواقع، وخلاف ذلك سوف يواجه- كما هو الحال في سوريا ومصر وتونس حاليًا- بقوى التدافع التي تهدد حاليًا المشروع النهضوي الإسلامي نفسه.

فالأولى إذن في هذا الإطار، هو الحديث عن إصلاح جذري، من خلال السيطرة على الدولة وليس إسقاطها، عبر إبعاد الفاسدين ومحاكمتهم واسترداد الثروات المنهوبة، وإعادة بناء ثقافة المسؤولية والمحاسبة والشفافية، وبناء ثقافة جديدة لدى المسؤول والموظف العام، تعتمد على فكرة أنه خادم للشعب، وليس متسلطًا عليه، أو أنه في مرتبة أعلى منه، بالإضافة إلى استبعاد المحسوبية في التعيينات، واعتماد معايير الكفاءة، وغير ذلك من معايير الحكم الرشيد.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …