لا يختلف أحد على أن فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التركية أعاد رسم الخارطة الذهنية للكثير من الناس، والتي كانت تتشكل لدى البعض بأن تجربة الإسلاميين في السلطة، أو ما يسميه البعض بــ"الإسلام السياسي" أصبحت على حافة الزوال خصوصاً بعد المعطيات الجديدة التي حدثت بعد الانقلاب العسكري في مصر، وما تبعه من تشديد للخناق وحظر واتهام بالإرهاب للإخوان المسلمين بشكل خاص.
لم يكن فوز حزب العدالة والتنمية التركي فوزاً عادياً، كحال أية انتخابات بلدية، بل كان منتشياً بطعم الانتصار وتجاوز التحدي الأكبر، المتمثل بالمؤامرات الداخلية التي تهدف إلى الإطاحة بالحزب عن السلطة، أو الخارجية التي تريد استمرار مسلسلها الرامي بإسقاط الإسلاميين وإفشال تجاربهم في كل مكان.
ومن ناحية أخرى، كانت عيون الكثير تترقب ما يجري في تركيا، بين من يسعى لفوز الإسلاميين في تركيا بعد مسلسل المؤامرات الدولي الذي استهدفهم، وما تعرضوا له من نكبات في الدول العربية المختلفة، وآخرين يسعون للشماتة واستكمال مسلسلهم الرامي لسلخ الأمة عما هو إسلامي ينعش فيها أمل الحرية والعزة.
أبعاد ودلالات..
لست هنا بصدد توقع الآثار المترتبة لفوز حزب العدالة والتنمية، والتي ستكون إيجابية بلا شك لصالح الإسلاميين، خصوصاً وأن تركيا تشكل تجربة فريدة لهم، وفي نفس أصابت تلك المؤامرات في مقتل، حيث ظنت أن الإسلاميين سيتساقطون كأحجار الدومينو وأن إسكات صوتهم ومحو تجربتهم هي مسألة وقت!
"الفوز بثقة الشعوب في المعارك الانتخابية أمر يتقنه الإسلاميون نتيجة البعد والعمق الشعبي لهم، وطبيعة توجهاتهم وأفكارهم المتناغمة مع ثقافات الشعوب ورؤاها، لكن ما ينبغي التركيز عليه هو كيفية استمرار هذا الفوز"
عموماً، ما يهمنا هو دراسة أبعاد استمرار فوز حزب العدالة والتنمية، والتي حري بنا أن نفهمها ونطبقها، فالفوز بثقة الشعوب في المعارك الانتخابية أمر يتقنه الإسلاميون نتيجة البعد والعمق الشعبي لهم، وطبيعة توجهاتهم وأفكارهم المتناغمة مع ثقافات الشعوب ورؤاها، لكن ما ينبغي التركيز عليه هو كيفية استمرار هذا الفوز، فالكثير منا بمجرد فوزه بثقة الناخبين في تجربة هنا أو هناك، سرعان ما يسقطه الناخبون في تجارب أخرى، وهذا يستدعي الانتباه إليه، ولفت النظر من خلال التجربة التركية التي تتمثل أبعادها بحسب وجهة نظري بالأمور التالية:
1- العمق الاجتماعي، والتواصل الدائم مع القاعدة الانتخابية، سواء بالتواصل المباشر، أو سماع شكاويهم واقتراحاتهم. فليس الوصول إلى السلطة غاية يبتغيها الإسلاميون في أي مكان، بقدر ما هو وسيلة تعين الناس على تحقيق واجب الاستخلاف، وترتقي بهم وتؤمن لهم كافة الأمور.
والمسؤول لابد أن يدرك أنه محاسب على مسؤوليته أمام الله سبحانه وتعالى، فلا ينفع في عمله التقصير والتقاعس، وإن وجد من يتصف بذلك، استبدل بمن هو أفضل.
2- وضوح الرؤية والمشروع، فحزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى السلطة قبل أعوام عديدة، كانت له رؤية واضحة ومشروع يسير عليه، مما جعل الآخرين يشعرون بتطور الحياة وارتقائها، ناهيك عن إحساسهم بالإنجاز، مما يعني اقتناع الناس بمن هم في السلطة. ولو كان للحزب رؤية مشوشة، أو لا يملك مشروعاً متكاملاً، لوقع في التخبط وضياع البوصلة، مما ينفر الناس عنه، ويجعلهم فريسة سهلة للوقوع بيد المؤامرات.
3- الحزم في إدارة الدولة، بدءاً من التعامل مع العسكر، مروراً بالقضاء، والإعلام، والمتآمرين على الدولة، وقد يعتري هذا بعض الأخطاء. لكن هناك فرقاً بين أن تبقي دولتك مسرحاً للمؤامرات وتنفيذها، وأن تتعايش مع عدو من السهل عليه أن ينقض على تجربتك، ويلغي كل إنجازاتك بجرة قلم أو بإلقاء بيان.
إن الناس تحب القادة الحازمين، الذين لا يتهاونون فيما يتعلق بشعوبهم ودولهم، وطبيعة الناس أنها تتمرد إن وجدت في السلطة ضعفاً أو تهاوناً تجاه القضايا المصيرية، وفي ذات الوقت، فإن مصارحة أردوغان للناخبين، وتوضيح طبيعة المؤامرة التي تحاك ضد بلدهم، كان لها دوراً مهماً في دعم الناس لحزمه في الحفاظ على الدولة ورفض أي تدخل في شؤونها.
4- سرعة التعامل مع المتغيرات، فبعد تحالف جماعة كولن مع الأحزاب العلمانية، وانقلابها على تحالفها مع حزب العدالة والتنمية، كانت ردة الفعل سريعة، في التخلي عنهم والاعتماد على الذات، وهي رسالة لابد أن يدركها العاملون في الحقل الدعوي، أن تحالفهم مع غيرهم قد ينفرط وينتهي، وهذا يعني توفير الإمكانيات المتاحة والجاهزية للتعامل مع هذه الظروف، وسرعة التغير في التعامل مع أي ظروف جديدة.
إن ما جرى من تصرفات لكولن وبعض جماعته، يعد ظرفاً غير متوقع، وهذا يقتضي على القيادات في العمل الإسلامي في كافة القطاعات أن تضع في ذهنها مجالاً لمثل هذه الظروف، ليس فقط انقلاب المتحالف، بل خروج البعض من المؤثرين من داخل التنظيم، مما يعني جاهزية التنظيم لمثل هذه الحوادث، حتى لا تكون آثارها السلبية وخيمة على مسيرة العمل.
"يجب على قيادات العمل الإسلامي في كافة القطاعات أن تضع في ذهنها مجالاً للظروف الطارئة، وجاهزية التنظيم لها، حتى لا تكون آثارها السلبية وخيمة على مسيرة العمل"
5- القوة الإعلامية، ومواءمتها للواقع، وقوة رسالتها، وسرعة انتشارها، وهو أمر طالما اشتكى منه الإسلاميون، مما يعني ضعفهم أمام وسائل خصومهم وأعدائهم، وهذا يقتضي ضرورة الاهتمام بالإعلام، وإيجاد الوسائل الكفيلة بالدفاع عن الفكرة، وتفنيد شبهات المتآمرين والأعداء.
6- التناغم بين الفكر والممارسة، فالحزب لم ينسلخ عن مبادئه التي جاء بها، فوقوفه المشرف مع القضية الفلسطينية ما زال مستمراً، وموقفه مع ثورة الشعب السوري، والشعب المصري، ما زال كما هو، وهذا مهم في بيان صدق المبادئ، وإقناع الناس بها، فلا تكفي الشعارات طالما أنها بعيدة عن التطبيق.
7- التناغم بين السياسة الداخلية والخارجية، فليس من المنطق أن يكون العمل الخارجي مقدماً على العمل الخدماتي والمحلي. صحيح أن الناس يهمها الوقوف مع قضايا الشعوب المختلفة، لكن في ذات الوقت يهمها من ييسر لها سبل عيشها، ويهتم بها.
وهذه رسالة للقائمين على العمل النقابي والمهني، أن لا يكون اهتمامهم بالشأن الخارجي مقدماً على الشأن الداخلي. فالناس لم تختارهم إلا لتنجز لهم أمورهم ومصالحهم، وليس لتنسى هذه الأمور على حساب القضايا الخارجية.
ختاماً.. الحكمة ضالة المؤمن، ومن المهم أن يعكف الإسلاميون في الدول المختلفة على دراسة تجربة حزب العدالة والتنمية، ويحددوا نقاط القوة والتأثر فيها، فليس الفرح بالفوز كاف فقط، بل لابد من الوقفة والتأمل، والاستفادة منها بما يحقق لهم ولشعوبهم العزة والرفعة.