قصّته واحدةٌ من آلاف القصص التي يعيشها الشعب الفلسطيني؛ نفس البداية ونفس الأحداث ونفس الآلام ونفس الحبكة ونفس النهاية؛ إنّما تتنوّع الأماكن والأزمان والأبطال: "مازن الضميري "صديق صادق صدوق؛ غيّبه الموت فجأة وهو في واحدة من محطّات تشرده غريباً مغترباً مطارداً، طاف الدنيا من شرقها لغربها ومن شمالها لجنوبها؛ لا تستقبله كاميرا ولا يتقدّمه ميكروفون؛ لا أظنّ بقعة فيها فلسطيني مشرّد إلاّ ووصلها ينشر خيراً أو يدرّب شباباً أو يؤسّس عملاً، بعضهم – بل معظمهم – لا يعرف اسم هذا "الدكتور" النحيل الذي يكاد يختفي من فرط نحوله، عُرِف ببنيته الضعيفة ووجه الشاحب وعينيه الغائرتين، لكنّ الأناقة ما كانت تغادره تماماً كما الهمّة التي كانت تسكنه!
يحمل في قلبه همّ فلسطين والأمّة وآلامها وآمالها يطوف بهما؛ ورغم أنّ المرض ينخر جسده من سنوات، ولم يُعرف كنه هذا المرض، بل اعتبره مستشفى "توام" في الإمارات حالة دراسية عالمية، رغم كلّ ذلك بقي مُصِرّا على العمل والحراك رغم أنّ كلّ من حوله يتحايلون عليه ليهدأ مراعاة لحالته الصحيّة، بل وصل الأمر في كثير من الأحيان لإغضابه! وهو ماضٍ في همّة تعانق السماء مُتحدٍّ للمرض والتشرد وتشتت العائلة في أربعة أقطار؛ لم أسمعه يوماً يشكو من المرض أو الألم بل شكواه الدائمة كانت من حال الأمّة والقضيّة وتقصيرنا فيها، وكيف يجب أن نكون وتكون أعمالنا؛ وما أحسب الشاعر إلاّ قصده إذ قال:
إذا كانت النّفوس كباراً تَعِبت في مرادها الأجسامُ
أصرّ على الحصول على "إقامة" في الكويت لينطلق منها بعد أن غادر الإمارات مضطراً؛ وفارق زوجته وأولاده، وعاش أعزباً وهو في سنّه التي تجاوزت الخمسين وحالته الصحية التي أعجزت الأطباء، كلّ ذلك لعزيمة تتدفق في جنباته للعمل، فما ركن للقعود، وما أقعده المرض؛ بل إنّ كثيراً من أحبابه لا يعرفون بمرضه.
حصل على "الإقامة" ولم يمهله القدر للانطلاق للعمل، لكنّه انطلق للعزيز الرحيم الذي يجزي عن العمل خير الجزاء، يكفيه أنّه مات وهو "يحدّث نفسه" بالعمل!
مات "مازن الضميري" وارتاحت منه - لا أراحها الله - أجهزة لاحقته لسنوات لا لشيء إلاّ لأنّه يعمل لوطنه وقضيته وشعبه.
مات مسكوناً بهمّ الشباب وكيف يحملون الرّاية بصورة تليق بهم وبها، دوماً كان يرى أنّ الأمل – بعد الله – بشباب هذه الأمّة لذلك كان حريصاً على تنمية قدراتهم وفق أرقى ما وصلت إليه علوم التنمية البشرية.
مات "مازن الضميري" ولم يعد على جداول الأعمال والحوارات الجانبية .. وها هو بين يدي رب رحمن رحيم غفور ودود كريم .. مات مازن ولحق بملايين الشهداء والصالحين والمشردين في أصقاع الأرض يشكون ظلم ذوي القربى .. مات وتركنا خلفه نمضغ آلامنا على ما فرّطنا في جنب الله، ونعيش حسرتنا وندمنا على ما أسأنا بحقه وحق غيره بل وحقّ أنفسنا.
مات "مازن الضميري" وماتت معه ملحمةٌ عمرها 30 سنة من البذل والعمل والعطاء .
مات "مازن الضميري"؛ فهل نصحو من غفلتنا أم نعود للتيه فيها ليأتي خبرَ موتٍ آخر لنصحو أياماً ثمّ لا نلبث نعود سادرين في غيّنا وغفلتنا وظلمنا لأنفسنا وبعضنا؟ ويبدو أنّ هذا طبع "البشر" لا نذكر محاسن أحبابنا إلاّ عند فقدهم، ولا سيئات أنفسنا إلاّ عند الموت!
رحمك الله أبا عمر وأعانك الله يا أمّ عمر وصبّرك وابنك وبناتك على مصابكم، وتذكرّي - إن غلبك الحزن - ملايين نساء المسلمين يفقدن العشير قتلاً وظلماً وإجراماً أنّ أبا عمر الحبيب مات بين يديك صابراً محتسباً محبوباً من أصدقائه وإخوانه فاحمدي الله.
أبا عمر نحتسبك عند الله، ونحسبك من الصالحين فإلى لقاء أبا عمر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.