تُعتبر سُورة القصص من أهم سُور القرآن الكريم، التي تناولت في ثناياها وثنايا آياتها الكثير من معالم الكُلِّيَّات التي أتى بها الإسلام للتعامل مع الأمور والقضايا السياسية الكبرى التي تُعرَض على الأمة، بل وعلى الإنسانية بأسرها.
ولعل من بين أبرز القضايا السياسية التي تناولتها السُّورة، خلال عرضها لقصة نبي الله، موسى "عليه السَّلامُ"، قضية صراع الحق والباطل، والاستبداد الذي يخرج من إطار الممارسة السياسية المعتادة للاستبداد والمستبدين، في أَخْذِ الأرض بمَن عليها وما عليها، إلى مستوى ادعاء الألوهية، بل والربوبية كما فعل فرعون.
تبدأ السورة ببضعة آيات قليلة العدد، عظيمة القيمة والمعاني، تلخص في بلاغة لغوية مُعجِزَة، صراع الحق والباطل، وممارسات الباطل في إطار الاستبداد السياسي للحاكم في حق رعيته المستضعفة.
يقول رب العزة سبحانه وتعالى، بعد التقديم الرائع للسورة، "طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)".. بعد هذه الافتتاحية؛ قال الله عز وجل: "نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)".
"هذه الآيات تحمل البشارات للمؤمنين؛ من أن نصر الله تعالى سيكون حليفهم، مهما طال الزمن، ومهما ظن المستبدون والظالمون، أنهم عَلَوا في الأرض."
وكما تحمل هذه الآيات توصيفًا دقيقًا لحال ممارسة الاستبداد والمستبدين، من استيلاء على خيرات البلاد، والتحكم في العباد، بالشكل الذي يصل إلى حد الجور على الأعراض والأموال، بل وعلى الحياة الإنسانية نفسها؛ فإنها تحمل أيضًا البشارات للمؤمنين؛ من أن نصر الله تعالى سيكون حليفهم، مهما طال الزمن، ومهما ظن المستبدون والظالمون، أنهم عَلَوا في الأرض.
وهناك عدد كبير من الرسائل التي تحملها هذه الآيات، في هذا السياق الفكري والتاريخي، أولها أن الاستبداد صنو الفساد والظلم والغَي، وأيضًا هو صنو الكفر، بمفاهيمه المختلفة.. الكفر بمعنى العلو والتكبُّر، والكفر بالمعنى العقيدي- أيضًا- في حالة فرعون وهامان وجنودهما.
ثاني هذه الرسائل، أن على المستضعفين في الأرض الصبر وإعداد العدة في مواجهة هذا العلو وهذا الاستبداد، خصوصًا إذا ما اقترن برسالة إصلاحية، تحمل في آثارها الكثير من التبعات على العمران الإنساني بأكلمه، وتمتد عبر التاريخ.
هذه الرسالة السامية- إذن- تستوجب من جانب العاملين في حقل الإصلاح السياسي والمجتمعي والفكري؛ أن يتحملوا ما قد يلاقونه على أيدي المتجبرين، من ظلم وقهر، ومهما لاقوا من صنوف العذاب والهوان؛ فنصر الله تعالى أكيد؛ لأنهم جند الله عز وجل؛ ينصرونه، وينصرون رسالته.. يقول تبارك وتعالى: "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" [سُورة "الحج"- من الآية 40].
الرسالة الثالثة في هذا الإطار، تتمثل بأن النصر من عند الله العزيز الحكيم، وهو منَّة منه تبارك وتعالى.. "وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ".
وهي رسالة تواترت في أكثر من موضع من القرآن الكريم؛ للتأكيد على هذه الرسالة من الله عز وجل لعباده الصالحين؛ أنه حتى مع الإعداد والعدة، ومع الصبر والأخذ بالأسباب؛ فإن النصر يظل منحةً وهِبَةً إلهية.. يقول تعالى: "وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ" [سُورة "آل عمران"- من الآية 126].
"من الرسائل التي أشارت إليها الآيات الكريمة، أن على المستضعفين في الأرض الصبر وإعداد العدة في مواجهة العلو والاستبداد، خصوصا إذا كانت رسالتهم إصلاحية، تحمل في آثارها الكثير من التبعات على العمران الإنساني بأكلمه، وتمتد عبر التاريخ"
وفي مقابل هذه البشارات؛ يأتي التحذير الإلهي للمستبدين؛ بأن عاقبتهم وخيمة، بل هي أسوأ العواقب، وهي الهزيمة والاندحار في الدنيا على أيدي من عانوا الأمرَّيْن منهم، والعذاب المهين في الآخرة.
وفي حالة فرعون، نموذج المستبدين والظالمين عبر العصور، ونبراسهم الأهم؛ فإن الله تبارك وتعالى قد أخذه أخذ عزيز مقتدر، وجعله عبرةً خالدة في هذه الحياة الدنيا، قبل أن ينال العذاب الأليم المهين في الآخرة، وهي عاقبة كل ظالم مستبد.
ولقد رُويت هذه القصة أكثر من غيرها في القرآن الكريم على أهميتها، ومن بين السُّور القرآنية التي تناولت هذه التفاصيل بتوسُّع أكبر، سُورة طه و"يونس".
وعلى سبيل المثال يقول رب العزة في سورة يونس: "وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)".
وتؤكد هذه الآيات أيضًا على فكرة أن النصر من عند الله تبارك وتعالى، ولا يمكن أن يقع للإنسان، وللأمة؛ إلا لو أراد الله تعالى ذلك.
ففي هذه الأيات، أعجزت الأسباب بني إسرائيل؛ فأتى النصر مباشرة من الله، عندما شق البحر لموسى "عليه السَّلامُ"، وأغرق من خلفه آل فرعون.